"إنها غيوم الحياة"
بقلم أمل محمد الكاشف
خجلت مما قاله ظلت تنظر لشاشة التلفاز بشرود وحمرة اعتلت وجنتيها متذكرة وقوفه أمامها قبل أشهر وتكراره لهذا الطلب بقوله
"جاء الوقت لنجتمع لأجل وردتنا"
حينها اجابته بقلبها الذي لا زال جريحا متألم
"وردتنا ليست بحاجة لزواج بل هي أشد حاجة لاستقرار وحياة هادئة، اريد ان اعيش انا وابنتي كما تمنيت دوماً، ساتنفس كل يوم وليلة على أمل عيش هذه الحياة دون الحاجة لأحد، اعتذر لقسوة كلماتي ولكنني عانيت كثيرا لأصل لهذه النقطة وكل ما أريده الآن حياة نحن ابطالها نحن من يصنع بها الاستقرار والأمن والنجاح"
اغمضت اعينها وهي تحنو على رأس ابنتها النائمة بجوارها على الفراش لتتذكر ما حدث معهم قبل سنة من الآن. حين تلقت خبر القبض على عائلتها و وفاة أمها، بهذا الوقت كانت هي بقسم الشرطة تدلي بافادتها متهمة أركان بظلمها وحرمانها من ابنتها بعد استغلاله لفقدانها البصر ليغري اخوتها بالمال مقابل حملها عن طريق تلقيح صناعي تم بعده بيع ابنتها بالرخيص، أنكر أركان ما تقوله وتحدث وهو ينظر لمحاميه
"لا لم يكن كما حكت هي، هم يظلمونني ذهبت وتزوجت بها بعقد قرآن امام شيخ لاجل زواجي المدني من المرحومة سما، كنت أسعى للانجاب من أجل تحقيق حلمي وحلم أمي الذي لم يذهب عند معرفتنا بصعوبة انجاب زوجتي بأي طريقة، لم أعلم وقتها انها ليس لديها علم بما يجري ذهبت وجلست امامها وعقدنا القرآن لاتفاجأ بألم بطنها يزداد ويزداد لم أفهم الأمر فكنا سنتزوج واخذها لمنزل مخصص لها تصبح زوجتي الشرعية التي استطيع ان انجب منها والأخرى زوجتي المدنية"
قاطعه المأمور متسائلًا
" هل زوجتك الرسمية كانت على علم بزواجك الجديد، وايضا لماذا تراجعت بعد وصولك لهذه النقطة"
رد أركان بجوابه القطعي
"نعم سما كانت على علم بذلك أنا وهي اتفقنا على كل شيء حتى أنها وعدتني بمساعدتها لام أطفالي بتربيتهم، ولكن بعد ما حدث شعرنا انها علامة من الله يحذرنا بها من إتمام الزواج ولأجل غيرة زوجتي ولمحافظتي على مشاعرها تراجعت"
قاطعته حياة ببكائها وحالتها المزرية حين ذاك
" كاذب انت تكذب انت خدعتني، كل شيء كان خدعة من ألم بطني حتى دخولي للعمليات"
نظرت حياة للمأمور مكملة
"كانت المشفى والأطباء على علم بوصولي لتتم العملية بشكل سريع، كما تم تجهيزي لها قبلها بأشهر وانا لا علم لي بهذا، علمت مؤخرا ان ذهابي مع امي لطبيب النساء قبل العملية بعدة شهور لم يكن أمر فجائي غير مدبر ومخطط له"
نظر المأمور لأركان طارحاً عليه سؤاله
"بماذا تفسر إتمام العملية على وجه السرعة يعني ان كنت ستتزوجها وتأخذها لمنزل كي تتم الزواج و تنجبان بشكل طبيعي ورضا كما تتحدث فكيف تمت كل هذه التحضيرات وإتمام العملية بنفس الليلة"
رد أركان وهو ينظر للمحامي
"كل ذلك من تدبير أمي ما كنت أعلمه حدثتكم عنه وجميع ما تم بالخفاء كان من تدبير امي انا لا علم لي بشيء،جاءتني قبل مولد الطفلة بأيام لتخبرني أنا وزوجتي سما أننا بصدد استقبال مولود جديد، غضبنا وثرنا وتشاجرنا معها لفعلها كل هذا ونحن لا علم لنا، تحججت أمي بحبها لزوجتي سما وأنها لا تريد جرحها وتألمها بزوجة أخرى لي، رفضت زوجتي أن تأخذ الطفلة من أمها لتنسبها لها ولكن مع الأسف تفاجأنا ايضا بالطفلة امام منزلنا بعد ساعات من ولادتها يخبرونا ان أمها لا تريد تحمل مسؤوليتها وأنها تريد عيش حلمها بالتعليم والشفاء من العمى طالبين منا مبلغ كبير لتحقيق أحلامهم"
نظر أركان لدموع حياة ثم نظر للمأمور قائلا
" إن كنت مكان أمي أو مكاني ماذا كنت ستفعل مع ناس كهؤلاء هل ستترك طفلتك من لحمك ودمك لهم وهم لا يريدونها، هل ستأمن عليها مع أشخاص كل تفكيرهم بالمال"
صرخت حياة بوجهه وهي تنعته بكاذب ومخادع.
ومن هنا أصبح أركان طرف فرعي في قضية خداع حياة واقحامها بعملية حقن مجهري دون معرفتها بعد أن كان متهم رئيسي دبر وخطط لخداعها وحرمانها من ابنتها بعد الولادة.
كما تم وضع الذنب كله على مصطفى وصادق الذي لم يشفع له ضميره ان يسلم من هذا الذنب.
أنهت الشرطة التحقيق لاستياء حالة حياة على أن تعود بعد يومين لمواجهة مصطفى وادلاءها بأقوالها أمام الشرطة بحقه هو وصادق.
حاول سراج ان يهدئها ويساندها حتى تستعيد قوتها لمواجهة اخواتها، دون أن يتوقع أحد منهم هروب مصطفى بعد انتحال شخصية أخرى بمساعدة أركان ورجاله كي يذهب وينهي حياة أخته قبل ادلائها بأقوالها الجديدة، أراد أركان ان يجعل القضية محصورة بين الأخوة وأمه ويخرج منها بشكل كامل كي يتفرغ بدفاعه عن نفسه بالقضية الأخرى التي تخص المتاجرة بالمخدرات، اعطاه المحامين أملا كبيرا بإخراجه وتبرأته فهذا أمر ليس بصعب عليهم كانوا يفعلونه مع العملاء فلن تصعب مع رئيسهم ، ترقب مصطفى غرفة أخته حتى اتته فرصته حين اخذ سراج وردته وذهب بها لشراء الحلوى وبقيت حياة خلفهم بغرفة الفندق ترتاح من ألم رأسها.
طرق باب الغرفة لتفتح معتذرة من خدمة النظافة انها غير متاحة الآن، تفاجأت بدخول مصطفى بسرعة وإغلاقه الباب من خلفه ناظرا لعيونها المتسعة قائلا
"ما بكِ ألم تتوقعي مقابلتنا مجدداً، أم أنكِ كنتِ تنتظرينها بمكان آخر "
تراجعت حياة خطوات أسرعت بها كي تأخذ الهاتف وتستنجد بسراج، ولكنه كان أسرع منها حين امسكها بقوة وصدمها بالحائط ليسقط يده على وجهها بصفعة أراد بها ان يخلص حقه بما رآه بالايام السابقة، لم يتوقع احد ان يلقي عليها ذنب وفاة امها وانها السبب في شتاتهم وسوءهم فإن كانت صمتت ورضيت لكانوا الان بحياة أجمل وأسعد، صاحت بصوتها المغيم بالدموع
"لن اصمت ولن ارضى بظلمي وظلم ابنتي، ستدفعون ثمن ما فعلتموه"
تحركت لتبتعد عنه هاربة من قبضته دون ان تستطيع، لم يتوقع مصطفى عودة سراج وطرقه الباب بهذه السرعة.
صرخت حياة مستنجدة به ليطعنها أخوها عدة طعنات جهة قلبها بشكل هستيري وخوف من اعلاء صوتها، كان يبيت النية بموتها ولكنه لم يعتقد أنه سيفعلها بعنف وغضب لهذه الدرجة.
سقطت حياة أرضا دون صوت كما تمنى وسعى ليتحرك هو نحو النافذة محاولا الهروب عبر الغرف الأخرى المتلاصقة ببعضها، ازداد طرق الباب ورنين الهاتف.
نظر سراج لوردته ليقول
"اعتذر منكِ لا يمكننا الذهاب لأي مكان دون معطفك، الطقس بارد وأخشى ان تمرضي منا"
حزنت آيلا وصمتت ملبية مطلب عمها حتى انها ذهبت لغرفته كما قال لها قبل أن يتحرك هو، حزن قلبه على حالتها التي لا تشبه الذين بعمرها طرق الباب على غرفة امها من جديد دون فائدة، تحرك ودخل غرفته وهو يحدثها
" ليس بيدي شيء انتظري قليلا لتستيقظ ونذهب لشراء الحلوى والالعاب ايضا ان اردتي هذا"
من حسن الحظ رؤية الكاميرات تسلل شخص للغرف عبر النوافذ المتلاصقة المغلقة باحثا عن مخرج، ساعد مصطفى على السير دون سقوط وجود شريط اسمنتي بارز مخصص لوضع الورود والزينة اسفل النوافذ.
استنفر أمن الفندق باحثا عن ذلك الشخص وهو ينبأ نزلائه عبر المكبرات بتوخي الحذر، وعلى وجه السرعة ذهب رجل لغرفة سراج وحياة للاطمئنان عليهم على خلفية الأحداث التي يمرون بها. ذعر سراج واصبح يصدم الباب بقوة مناديا عليها، أتوا بمفتاح احتياطي وفتحوا الباب لينصدموا بحالتها.
تم انقاذها سريعا كما تم القبض على مصطفى الذي لم يفكر بذلك المصير المحتم فإن استخدم عقله الصغير للحظات كان اختار وقت ومكان انسب بكثير من فندق مراقب ومؤمن لهذه الدرجة، من حسن حظ آيلا ان جميع الطعنات أتت بعيدة عن قلب امها لتنجو وتبقى بجانبها في أوقاتها الصعبة.
كان في حادثة القبض على مصطفى بلاء كبير بحق أركان حين ثبت انه خلف تهريبه، و الأسوأ حين اعترف مصطفى على اعماله السوداء وانه كان شريكا لأمه بكل شيء، حدثهم عن أصدقائه الذين توفوا أمامه بطلق ناري برأسهم دون أن يشعر بهم أحد، أنبأهم عن ظلم أركان وخوف الجميع من شره واجرامه لهذا لم يستطيعوا معارضته او خيانته، لم يكن مصطفى الشاهد الوحيد على أركان لتتوالى الشهادات وظهور المستندات من أصحاب الحق الذين كانوا ينتظرون هذه اللحظة ليتأكدوا من عدم خروجه ومحاسبتهم.
لم يصدق أركان ما وجه له من تهم، حاول المحامون إخراجه من بئره المظلم حتى يأسوا حين أراد الله محاسبته ومعاقبته على ما اقترفه من ذنوب ومعاصي بحق نفسه والغير، ليصدر حكم كبير بالسجن أربعون عاماً وعلى مصطفى خمسة وعشرون عاماً لأعماله السوداء بجانب ما فعله بأخته، كما تم الحكم على صادق بثلاثة أعوام نظرا لسوء حالته الصحية ومسامحة اخته واعتراف جميع الأطراف بعدم تورطه أو معرفته بالمؤامرة من البداية مع دفع كفالة زادت عن مائة ألف ليرة تركي.
تعافت حياة شيئا فشيئا حتى أصبحت تحرك يدها بسهولة ولين.
وبعد مرور ثلاث شهور وجدت نفسها أمام عرض زواج من عم ابنتها الذي وقف امامها
"كما ترين انقلب الحال وأصبحنا بدنيا غير الدنيا التي كنا نعيشها، أم ليست بأم وأخ وكأني لم اعرفه ولم اعش معه قط، انظري حولنا نحن من بقينا من حطام العائلة، لا أعرف كيف سأقولها ولكني أرى أنه لا مجال لتأخيرها أكثر من ذلك، فحياة الفنادق غير مريحة ومجزية لبناء شخصية طفلة سوية ناجحة، اريد ان ارتب حياتي وابدأ من جديد ونحن أسرة واحدة متحابة متشابكة يسعى جميعنا لمداواة الاخر واسعاده"
حزنت حياة لما قال بوجهه الحزين وكأن الدنيا اغلقت امامه لتجبره على حمل مسؤوليتها هي وابنتها ومن هنا جاء رفضها وطلبها أن يكون لها أخ يساندها للبدأ من جديد بحياة هادئة مستقرة لا يوجد بها سوى ابنتها.
احترم موقفها ولم يعارضها برفضها بعد أن أصبح شخص مختلف ينتظر الحدث السيء قبل الإيجابي.
ساعدها بشراء منزل في بناية تقع وسط مجمع سكني مأمن بحراسة وكاميرات وخدمات تنظيف. يحيط المكان ملاعب وحمامات سباحة ومطاعم.
لم يرد الضغط عليها بشراء منزل مجاور لهم، فكر بحديثها له...
"انت شاب بمقتبل عمرك لا تربط حياتك بنا، انتظر حتى تمر وتتخطى ما حدث معك لتبدأ من جديد بعملك وحياتك لتضيء قلوب الشباب الذين ينتظرونك، اعطي لنفسك فرصة وحياة جديدة لترى محبة من حولك، ستجد أشخاص جدد يظهرون بحياتك ياخذون محط اهتمامك وقلبك، أنت تستحق الأفضل"
استقر سراج بمنزل صغير من طابق به صالون و حمام ومطبخ ودرج صغير يصل لغرفة بالاعلى تتسع نصف مساحة المنزل فقط، اطمأن عليها ليستقر بعدها بمنزله كاتبا أول تغريدة بعد التغيرات والأحداث التي مر بها
"حين تعيش الحياة ستتعلم وحدك كيف تكون حادا صلبا قاسيا، تتنفس وتسير على قدمك وأنت وحيد كالاموات، تحب ليلك وتنتظره بشوق حتى تلج به وحدك تحدثه ببطئ وثقل شابه بطئ حركة عقارب الساعة بيوم منتظر.... تصل نفسك لنقطة لا يستطيع أحد أن يحطم اغصانك الميتة ولا يضرب جذورك المترهلة أكثر مما حدث بها، تنظر خلفك وانت تسمع الضحكات وترى الوجوه المحبة وقد سقطت عنها الأقنعة لتظهر قبح ما كانوا يخفوه وراءها، تتمنى ان لو كنت نسيا منسيا بطريق لا مبتدأ ولا منتهى به، نسير بطريقنا على الرمال المتحركة بحجة أنه لا طريق ولا خيار للحياة غيره، نتعثر ويكثر سقوطنا ونهوضنا لنستمر بجهادنا المنهك للقلوب التي رحلت واصبحت تنبض فقط لإكمال الرسالة حتى يأخذ الله أمانته"
حزنت حياة على حالته وكم التعليقات التي كانت تواسيه و تذكره بماضيه وقوته وتفائله بالحياة، انتهى فعليا خلف الأحداث التي مرت بها عائلته حتى أنه لم يفرح بثبوت نسبه لعائلة اوزدمير، ورغم كل ما هو به لم يتأخر عن الذهاب للزيارة الاسبوعية لأخيه في محبسه دون ان يحظى برؤيته، كما لم يقصر بزيارة من نعتها أمه لسنوات عمره مهتما برعايتها الطبية تحت ايدي افضل فريق طبي متخصص داخل مشفى السجن متمنيا عودتها للنطق كي يعلم حقيقة نسبه من جهة أمه، وبينما كان يخطو خطواته المتألمة المميتة نحو الحياة جاءه خبر وفاة اخيه منتحرا رافضا حياة السجون.
ورغم غضبه وضيقه منه إلا أنه لم يستطع منع روحه للاحتراق حزنا عليه، نسف ودُمر ، لم تتركه حياة وقفت بجانبه وتحملت نوبات غضبه على نفسه وما حدث معه واوصله لفقد أحبته، كان يلوم نفسه على الإبلاغ عن أخيه تارة ويلوم الآخر على ما اقترفه بحقهم تاره أخرى حتى انتهى تماما بتلك الفترة.
وبعد مرور ستة أشهر على الحادثة الكبرى يتخللهم مرور ثلاث شهور على وفاة أركان ذهبت حياة لمنزله جلست على مقعد بجانب طاولة الحديقة تنظر لابنتها التي ذهبت لتطرق الباب على عمها لتعلمه بقدومهم، فرح بها واحتضنها ليقبلها مشيرا بيده ملقيا السلام على حياة أخذ الطفلة للداخل كي يمشط شعره ويبدل ملابسه التي كانت تشبه وحدته وخرج بعدها ليجلس على المقعد المجاور مرحبا بها
"ان كنت أعلم بقدومك كنت أبلغت السيدة نظمية كي تجهز لكم..."
قاطعته لتطلب منه أن يأخذها لزيارة أركان بالمقبرة، تفاجأ بطلبها نظر لوردته بالجوار ثم نظر إليها نظرات تعجب، حدثته من جديد
"أصبحت تعلم كل شيء حتى انها رغبت بزيارته، علينا جميعا أن نكيف ونسلم أنفسنا للوضع الجديد الموت ليس نهاية كل شيء وإلا كان العالم انتهى منذ القدم، لنجعله بداية جديدة لنذهب ونقرأ له الفاتحة لعل الله يغفر له، حتى فكرت ان نقوم ببعض الأعمال الخيرية لأجل أن يغفر الله بها ذنوبه"
سألها باستغراب ملأ وجهه
" هل سامحتيه بحقك"
ردت بنبرة الذكريات وقالت
" أتاني معتذرا عن ذنوب لا تغتفر، أراد مني أن أغفر له تفريقه بيني وبين ابنتي، انتزع روحي من قلبي، عيشني سنوات عجاف لا يعلم احد مرارة الأيام والليالي بهم سواي، حينها كان الاعتذار والمسامحة اشبه للموت والحياة بالنسبة الي و ايضا ان سامحته في حقي ماذا عن حق ابنتي بعيش ما عايشته مع امها المزيفة، نعم كان ذلك قبل وفاته ولكن بعد الوفاة وأخذ الله حقي من جميع من ظلموني أصبح لا فرق لدي بين مسامحته وعدمها، ولهذا اخترت المسامحة لاجل ان يسامحنا الله ولأجل ابنتي فحبها لوالدها وما فعله معها منذ ولادتها يجعلني اسامحه بحقي كي استطيع ان اسايرها واساندها واقف بجانبها وهي تتألم فقدانه وعدم رؤيتها له من جديد"
نظر لوردته التي كانت تقطف الورود وتجمعها لأجل ابيها مستمعا لباقي حديث حياة
"عليك أن تسامحه أنت ايضا، ليس بالقول كما تصرح امام الجميع بل مسامحة من قلبك تستطيع بها التوقف والبدء من جديد"
دمعت عينيه بسماعه ما تقوله تحرك و وقف متحججا بتجهزه للذهاب للمقبرة هارباً للداخل قبل أن تذرف عيونه الدموع الحارقة.
حزنت على حاله وحال ابنتها التي اقتربت منها لتريها الورود الملونة قائلة
" هل سيحبهم أبي؟"
قبلتها أمها وهي تجيبها
" نعم سيحبها، وهل له ان لا يحبها وانتِ من جمعهم و اختارهم لأجله"
تحدثت آيلا لأمها
"أمي هل لي أن اجمع المزيد لأجل زيارة جدتي"
عاد سراج إليهم وهو يستمع لجواب حياة
"لنشتري لها باقة ورود قبل ذهابنا إليها. كي لا ننهي ورود عمك ويخشى زيارتنا من بعد الآن"
ابتسم سراج بحزنه وأخذ إبنة أخيه ليقطف لها المزيد من الورود حتى فرح وجهها الصغير واكتفت بما أخذته.
لم تكن الزيارة سهلة على قلب حياة التي وقفت أمام قبر أركان تحدثه بداخلها
" سامحتك بحقي، لأجلها، لأجل روحها التي أهديتني بها ،سامحتك بحقي، لأجل ان يسامحنا الله على ما نعلمه وما لا نعلمه من ذنوب، غفر الله لك"
تحدث سراج "انظر يا أخي من جاء اليوم لزيارتك"
تغرغرت عيونها الصغيرة وهي تسأل عمها
"هل من الممكن أن يأتي دقائق صغيرة كي أراه واحتضنه ويعود بعدها للجنة من جديد"
لم تتحمل دموع سراج الثبات أكثر من ذلك حملها واحتضنها جالسا بها على حافة القبر بعد أن اعجزه حزنه عن الوقوف قائلا
" لقد فوضني بهذا الامر وقال لي كلما أرادت ابنتي احتضاني سأتي لصدرك كي احتضنها وهي داخلك"
شددت آيلا من حضنها لعمها
"احبك يا أبي"
استدارت حياة لتمسح دموعها التي خرجت رغما عنها تأثرا بابنتها وهي تحدث أركان داخلها قائلة
"كيف لم تفكر بها وانت تقدم على رحيلك بيدك، كيف لم تشفق على قلبها وانت تعلم مدى حبها وتعلقها بك، كيف كنت اناني لهذا الحد وانت تتركها بدونك"
وبهذه الوجوه الحزينة والقلوب المفتوره أصرت آيلا ان تذهب لزيارة جدتها وتعطيها باقة الورود بنفسها، ألقت الصغيرة بنفسها في حضن جدتها التي فرحت بقدومها فرحة انارت وجهها، تحرك سراج جانبا وهو يحدث حياة عن ما جرى بالاتصال الذي دار بينه وبين الطبيب النفسي الخاص بالطفلة التي تحدثت بهذه اللحظة قائلة لجدتها بتلقائية
" ذهبت لأبي بالمقبرة وسلمت عليه واحتضنته بحضن عمي لانه بالجنة ومن يذهب للجنة صعب أن يعود منها"
تفاجأت نازلي بخبر وفاة فلذة كبدها لتزداد احتراقا وألمنا ليس على تدمير حياة جميع من حولها بل وعلى ذنب ما فعلته بوحيدها وحفيدتها.
كان مرضها وعجزها أشد عقوبة دنيوية لأمثالها، تتعذب وتحترق بذنوبها وحدها دون صوت.
تحسن سراج نفسيا من بعد هذا اليوم حاول ان يشدد من ازره لأجل إبنة أخيه التي كانت تقصفه وتنسفه كلما ركضت نحوه لتحتضنه بقوة "اشتقت إليك يا أبي"
مرت الأيام وأتى موعد فتح المدارس وبدأ عام دراسي جديد، تجهزت آيلا للذهاب إلى المدرسة لتدرس بالصف الأول، كما تجهزت حياة لتبدأ العمل بمدرستها السابقة لتكون بجانب آيلا وان لم تدرسها.
انشغلت بعملها والاهتمام بابنتها عند عودتها ليكتبا الواجبات سويا بسعادة كبيرة ورضا.
بهذه الايام عاد سراج للعمل بالشركة وهو يقسم على تنظيفها من السموم التي اقترنت بها، غير الكثير من المدراء ورؤساء الأقسام ورجال الحرس والامن داخل الشركة وخارجها بالمخازن ومتاجر البيع للعامة.
لم يكن التغير والإدارة سهلا على شخص أمضى حياته بالتعليم والسعي خلف مواهبه ولكنه حاول واستعان بكثيرين من أصحاب الخبرة والحنكة بهذا المجال.
ليمضي على ذلك سنة كاملة قرر العودة بعدها لحياته كاعلامي بجانب إدارة شركته.
سبحت حياة بذكريات تلك السنة وما مرت من صعوبات حتى غطست ببحور نومها العميق، بهذا الوقت كان سراج قد أنهى برنامجه الاذاعي وخرج من مبنى عمله وهو يحدث نفسه
"هل اذهب لها مباشرةً ام اتصل بها"
اتصل صديقه يزن به قائلا
"سمعت انك احرقت السفن من جديد. ما بك يا اخي الم تشبع من قول لا واردت سماعها من جديد، لا وهذه المرة على مرآى ومسمع من الجميع"
ضحك سراج برده
"لعلها تشفق على وجهتي الإعلامية وتضطر على الموافقة"
سأله يزن
" هل حدثت والدها؟"
اجابه سراج بحب وفرح
"أخبرني انه يتمنى قبولها أكثر مني"
تحدث يزن وقال
" هل كان عليّ أن أسرع بموعد زواجي حتى لا تسبقونا ويصبح عيب بحقنا"
ضحك سراج قائلا
" نعم حتى اسبوع كثير علينا، ان اخذت موافقتي سأعقد عليها غدا فقط كي اسبقك واعلمك كيف يتأخر المرء على دخول جنته كل هذا الوقت"
رد يزن عليه
" اخاف من نبرة ثقتك الكبيرة، بل وأخشى ان ندخل النار بارجلنا ويغلق علينا دون خروج "
ضحك سراج مجيبا
" ما هذا التفاؤل يا اخي اتركنا نحلم بالاخير جميعنا يعلم بأي باب سيدخل ويسجن فلنفرح قليلا دون كوابيس"
علا صوت ضحكهم وفرحتهم لينتهي اليوم بهذا القدر بعد أن عاد سراج عن الاتصال بها خوفا من تسرعه وأخذ جواب يصدمه ككل مرة.
مر اليوم ليمر بعده عدة ايام وليالي لم يستطع الانفراد بها لا باتصال ولا بلقاء بعد أن اصبحت تتحجج بابنتها والعمل وانشغالها مع صديقتها العروس بتجهيزات ليلة العمر، كان يستمتع بخجلها وهروبها هذا متمنيا ان يكون الرد إيجابي بهذه المرة، فتلون وجنتيها وهروب عيونها وارتباكها كلما اقترب منها جعلاه متأملا بفتح السعادة أبوابها بوجهه من جديد.
جاء اليوم المنتظر بعد فترة خطوبة طالت عن المقرر لها، تجهزت نجلاء بفستانها الأبيض ليتجهز يزن بطقمه الأسود داخلين سويا وهما متشابكي الأذرع لقاعة الزفاف ومن خلفهما أصدقاء وأقارب العروسين.
اقترب سراج من حياة منبهرا بجمال فستانها الأحمر الأرجواني، أسرعت آيلا باقترابها منه لافتة انظارهم لها وهي تدور بفستانها الذي تعمدت امها ان يكون بلون وشكل خاصتها ليصبحا مثل بعضهما .تحدث سراج لوردته "أووووو آيلا هانم ما كل هذا الجمال. اصبحتِ حقا مذهلة" رفع نظره لحياة مكملا
"كنت أؤمن يا عمي انه لا يمكن لأي سيدة أن تظهر بمظهر متأنق أكثر من اللازم إلا من خلال ارتدائها للفستان الأسود ولكنِ اليوم آمنت وسلمت بإن تألق الألوان متوقف على جمال المرأة التي ترتديه وليس العكس"
خجلت حياة مبتعدة خطوات وكأنها لم تستمع ولم تنتبه له، تحرك تجاهها خطوات اخجلتها أكثر وجعلتها تتباعد بحجتها...
" سأذهب لأرى العروس لربما تحتاج لشيء"
غمز لها وقال
" نعم اذهبي لها وابلغيها ان اليوم لها وغدا سيكون لنا"
اخفضت عينيها خجلا منه وهي تنسحب مبتعدة عنهم شيئاً فشيئا أخذه قلبه وعقله معها.
يتبع ..
إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.