recent
جديدنا

مقرينوس الفصل الثالث والعشرون

Wisso
undefined
undefined

    

          رواية مقرينوس 

           ضي القمر وظلمات يونس


"حين يتلاعب السحر بالزمن، تصبح الخطايا أكثر ثقلًا، وتعود الأسرار لتطالب بحقها مهما طال الأمد."

أضاءت الشموع المتناثرة في الغرفة ضوءًا خافتًا، تلألأت أطراف اللهب مع كل نسمة هواء تتسلل من النوافذ العتيقة. جلس يونس وقمر إلى الطاولة في مواجهة الكتاب. فتحا الصفحة الأخيرة التي توصلوا إليها يقرآن معًا ما احتوته السطور، لكن الضبابية التي أحاطت بالمعنى أثارت توترًا خفيًا في أنفسهم.

قال يونس بنبرة منخفضة لكنها مليئة بالسخط:
"لا شيء. هذا الكتاب يتحدث بالألغاز فقط، كما لو أنه يحاول عمداً أن يضللنا."

كانت قمر تراقب النص بعناية. رفعت نظرها إليه وقالت بهدوء:
" علينا التحلي بالصبر. الكتاب لم يُكتب ليُفهم دفعة واحدة. كل كلمة فيه تمثل جزءًا من أحجية كبرى."

لكن صبر يونس قد نفد. ضرب الطاولة بقبضته فجأة، مما جعلها ترتج. وقف غاضبًا وهو يصرخ:
"أحجية؟ نحن نركض وراء سراب! كل هذا الوقت، وكل ما نحصل عليه هو كلمات مبهمة ورموز لا معنى لها. ووقت يضيع على الفاضي ولم نصل لشئ قد يدلنا على وجود جدتي في هذا الزمان من الأساس."

حاولت قمر تهدئته لكنها لم تجد الوقت للرد. فجأة. فُتح الباب بعنف، ودخل الملك بنفسه تحيط به هيبته وشموخه وعيناه تلمعان بنظرة ملؤها الريبة والشك.

قال بصوت رخيم حمل معه جليدًا لا يمكن إذابته:
"كفى لعبًا. حان وقت كشف الحقيقة."

التفت يونس وقمر في الوقت ذاته، كل منهما يجاهد لإخفاء صدمته. كانت نظرات الملك حادة كالسيوف، تجوب الغرفة وكأنها تبحث عن دليل يثبت ظنونه. تابع بخطوات بطيئة نحو الطاولة، ثم قال:
"ظننتما أنكما تستطيعان خداعي؟ لقد استمعت بصبر إلى كل ما تحدثتم به. 

صمت برهة ثم أردف بنبرة لوم وعتاب:
"لقد وثقت بكما وصدقت انكما شقيقان. لكن حبل الكذب لا يمكن أن يطول."

حاول يونس استجماع شجاعته، لكنه وجد نفسه يتلعثم وهو يقول:
"أيها الملك. لسنا هنا لإيذاء أحد، ولم نقصد خداعك."

قاطعه الملك بصوت أكثر صرامة:
"أنتما لستما شقيقين. الأمر واضح. من أنتما حقًا؟ وما الذي أتى بكما إلى قصري؟"

هنا. تقدمت قمر خطوة صغيرة إلى الأمام، وقالت بهدوء متزن:
" نحن... نحن في رحلة بحث عن شخص مهم. لقد أضعنا جدتنا ونريد أن نصل إليها. لم نخطط للمجئ هنا ولكن طريقنا أخذنا دون تخطيط لنجد انفسنا بقصرك". 

نظر بطرف عينيه للكتاب فأسرعت قمر لتقول:
" هذا مجرد كتاب يحتوى على خرائط قد ترشدنا الى مكان جدتنا" 


لكن الملك لم يقتنع بل زاد قربه منهما. وقف أمامهما مباشرة، ثم قال بنبرة حملت بعضًا من الغضب وبعضًا من الفضول:
"ميثال؟ هذا الاسم يردده بعض من سمع حديثكما."

انحبست أنفاس يونس، لكن قمر سارعت لتقول:
"هذا اسم جدتنا التى نبحث عنها."

رفع الملك حاجبه بشك، ثم قال ببطء:
"أعرف ميثال. فهذا الاسم المميز لا يمكن أن أنساه. إنها إحدى مرشدات الأميرة منيفة وهذا دليل إدانة على أنكما جواسيس منيفة"

تبادلا النظرات. شعرت قمر أن الأمر يتجاوز قدرتهما على التفسير البسيط. لكن يونس بدافع من شعور غريب بالثقة قرر أن يتحدث:
" لسنا جواسيس ولكننا نبحث عن الحقيقة التي قد تُغير مصيرنا ومصير هذه المملكة."

لكن الملك لم يتحرك، لم تهتز تعابير وجهه. فقط قال بصوت منخفض مليء بالتحدي:
"هذا القصر شهد أسرارًا كثيرة. لكن ما أراه الآن هو أنك تتلاعب بكلماتك. أعطني الحقيقة كاملة وإلا لن أسمح لكما بمغادرة هذا القصر أحياء."

أوشك يونس أن يتهور ويكشف المزيد ولكن قمر نظرت إليه نظرة صارمة ثم قالت للملك بسرعة:
" الأمر أعقد مما يمكن شرحه هنا. لكننا لسنا أعداءك. نحن هنا للبحث عن ماضينا، وربما ماضي مقرينوس نفسه وكذلك سرمد…"

لكن الملك كان أذكى من أن يقع في كلمات مطمئنة. أشار إلى الحراس الذين كانوا يقفون عند الباب، ثم قال:
"سأحبسكما حتى أقرر ما يجب فعله بكما. لكن اعلما أنني لا أُخدع بسهولة، وإذا كانت ميثال جدتكم فعلا.. فهذا يعني أنكما تخفيان أكثر مما تقولانه."

بينما كان الحراس يقتربون شعرت قمر بالقلق يتسلل إلى قلبها، لكنها حافظت على هدوئها على عكس يونس الذى يشعر بثقل الكلمات التي لم يستطع قولها.

همست بصوت بالكاد يُسمع:
"لا تقل شيئًا عن عالمنا. ليس الآن."

عينيها تحملان خوفًا عميقًا. اللحظة كانت حاسمة، وتوابعها قد لا تكون في صالحهما.

___________

بعد مرور الوقت … داخل الزنزانة الباردة والمظلمة، يجلس يونس في زاوية الحجرة، ينظر إلى الشقوق الدقيقة في الجدار الحجري، فيما بدت قمر وكأنها تُراجع بصمت كل خطوة أدت بهما إلى هذا المصير. كان الصمت كثيفًا يتخلله صوت تنفسهما المتقطع. البعيد. صوت الحراس الذين يتحركون عند البوابة الكبرى.صوت أقدام تقترب! 


تبادلا نظرات سريعة وقد تسلل إليهما أمل هش. لم يكن الحارس هذه المرة، بل كانت الأميرة ليانا بثوبها الطويل الذي يتماوج بلون الفضة تحت الضوء الخافت. نظرت إليهما بعينين تحملان عزمًا وقلقًا، وقالت بصوت خافت:
"لا وقت لدينا. استعدا للخروج."

فتحت ليانا قفل الزنزانة بمفتاح ذهبي أخرجته من تحت عباءتها. لم يسأل يونس ولا قمر أي سؤال. وقفا بسرعة، مدركين أن اللحظة لا تحتمل التردد. ولكن ما أن خطوا خارج الزنزانة حتى دوى صوت صارم خلفهم:
"إلى أين تعتقدون أنكم ذاهبون؟"

كان الملك ثورين واقفًا يحيط به مجموعة من الحراس، وبيده الكتاب الذي طالما رافق يونس وقمر في رحلتهما. عيناه الداكنتان تراقبانهم بريبة وحنق: 
"أيتها الأميرة ليانا، يبدو أن وفاءك لأبيك قد تزعزع."

حاولت ليانا التحدث بشجاعة:
" إنهما ليسا أعداءك يا أبى. إنهما يحملان الحقيقة التي طالما بحثنا عنها."

لكن الملك رفع يده ليوقفها.
" سأقرر ذلك بنفسي."

في تلك اللحظة حدث أمر لم يكن في الحسبان.
بدأ الكتاب يتوهج بين يدي الملك. كان الضوء ساطعًا ومهيبًا مثل شمس صغيرة انفجرت في المكان، أجبر الجميع على تغطية أعينهم للحظة وعندما خفت التوهج قليلاً، ظهرت كلمات تتشكل على صفحات الكتاب، كأنها تُكتب من تلقاء نفسها. كان الملك يراقب مذهولاً، يده ترتجف وهي تحمل الكتاب.

سأل بصوت مليء بالدهشة والخوف:
"هذا... ماذا يحدث؟"

تقدمت قمر بخطوة رغم التحذيرات الصامتة التي أرسلها يونس بعينيه:
"هذا هو صوت الحقيقة. الكتاب لا يكذب. إنه يخبرك بقصة سرمد كاملة."

قرأ الملك الكلمات التي بدأت تظهر بصوت عال:
"إن أردت الحقيقة كاملة، فلتتخلَ عن زواجك من الأميرة منيفة، ولتثق بهذين المسافرين. وإلا فإن اللعنة التي تحيط بك ستبقى إلى الأبد."

سادت لحظة من الصمت المشحون. بدا وكأن كل نفس في القاعة قد توقف. شد قبضته على الكتاب كأنما يحاول مقاومة الرسالة التي تخاطبه مباشرة. ثم نظر إلى يونس وقمر، ورأى فيهما شيئًا لم يره من قبل – شجاعة، وربما صدقًا لا يمكن إنكاره.

هتف لكن صوته لم يكن صارمًا كالسابق، بل بدا وكأنه يبحث عن إجابة:
"إذا تراجعت عن زواجي، ماذا سأجني بالمقابل؟"

رد يونس محاولًا أن يبدو هادئًا رغم ارتجاف داخله:
"ستجني السلام. ستجني الحقيقة، والأهم. ستجني الخلاص من لعنة ستدمر مملكتك إن تجاهلتها."

نظر الملك مرة أخرى إلى الكتاب، الذي بدأ الآن يتوهج بحرارة أقل، لكنه كان ينبض كقلب حي. أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال:
"سأثق بكما. ولكن، إن كان هذا خداعًا..."

قاطعه الكتاب الذي أضاء بشدة مرة أخرى، لتظهر كلمات جديدة:
"إن كنتَ صادقًا، فإن الحقيقة ستكشف ذاتها قريبًا."

خفض الملك الكتاب، وأشار إلى الحراس بالتراجع.
"ليكن. أطلقوا سراحهما. ولكنني سأراقبكما عن كثب."

 كانت الثقة التي منحها الملك مجرد خطوة أولى، لكنهما كانا يعلمان أن ما ينتظرهما أصعب بكثير.

بعد لحظات كانوا خارج الزنزانة يتحركان بحرية صحبة الأميرة ليانا التى قالت:
"الطريق الآن مفتوح، لكنكما لن تملكا سوى فرصة واحدة لإنقاذ سرمد. لا تخفقا."

سار الثلاثة معًا يحملون الكتاب الذي بدأ ينبض بإيقاع جديد، وكأنما يستعد لما هو قادم.

الصمت يلف الممرات الطويلة إلا من وقع خطواتهم. يتقدم يونس بخطوات ثقيلة، عيناه تتحركان بين الظلال الملتفة على الجدران، فيما قمر تمسك بالكتاب بعناية وكأنها تخشى أن ينهار بين يديها. أما ليانا، فكانت تسير بجانبهما، وجهها يحمل مزيجًا من القلق والإصرار.

سأل يونس بصوت خافت وهو ينظر إلى ليانا:
"ماذا بعد؟"

توقفت قمر فجأة، وكأن شعورًا غريبًا اجتاحها. حملت الكتاب أمامها ونظرت إلى غلافه الذي كان ينبض بضوء خافت، كقلب حي يوشك أن يبوح بسرٍ دفين.
"هذا الكتاب... لا يكتفي بأن يكون دليلًا. إنه يحاول أن يرشدنا إلى شيء أكبر."

أردف يونس بنبرة متشككة: 
"إلى أين يقودنا؟"

_"ليس الكتاب وحده الذي يقودنا، بل الرسالة التي يحويها،" أجابت ليانا وهي تشير إلى ممر جانبي. "هذا الطريق يقودنا إلى المكتبة القديمة. هناك، قد نجد ما تحتاجاه لفهم اسرار هذا الكتاب."

ساروا عبر الممر الضيق والجدران من حولهم بدت وكأنها تراقبهم بصمت غامض. عندما وصلوا إلى باب المكتبة كان مغلقًا بسلاسل ضخمة، وعليها نقش قديم كتب بلغة لم يفهموها. اقتربت قمر ووضعت يدها على السلاسل. 
في الحال. اشتعل الكتاب في يدها بضوء قوي، وبدأت السلاسل تذوب كالشمع تحت لمسة الضوء.

داخل المكتبة كان المشهد مهيبًا. رفوف ضخمة تمتد إلى ما لا نهاية، مليئة بكتب قديمة، وأرضية من البلاط المكسو بنقوش غريبة تتلألأ تحت الضوء الخافت القادم من سقف زجاجي مكسور جزئيًا.

هتفت ليانا بضيق:
"هذه المكتبة كانت مقر الحكمة لملوك سرمد لكنها مهجورة منذ زمن طويل."

رفعت قمر الكتاب مرة أخرى، بدأت أوراقه تُقلب تلقائيًا، كأنما تبحث عن شيء محدد. توقفت الصفحات عند رسم معقد لصندوق ذهبي يحمل نفس النقوش التي كانت على السلاسل.

_"هذا هو المفتاح،" قالت قمر، مشيرة إلى الرسم:
 "لكن أين نجد هذا الصندوق؟"

أشار يونس إلى لوحة قديمة معلقة على الحائط. اللوحة كانت تصور غرفة بداخلها الصندوق، لكن الغرفة كانت مليئة بأطياف ضبابية كأنها تحرسه.
أردف وهو يتأمل التفاصيل:
"هذا يبدو كتحذير"

ردت ليانا:
"إنه أكثر من تحذير هذه الأطياف ليست عادية. إنها سحر طبقته منيفة لتحرمنا دخول المكتبه والاستفادة من كل ما فيها من كتب لعلوم مختلفة وفريدة"

في تلك اللحظة، انطفأت الأنوار فجأة.حلّ صمت ثقيل لكن لم يدم طويلًا قبل أن يتردد صوت خطوات ثقيلة قادمة من أعماق المكتبة. تبادل الثلاثة نظرات سريعة، قبل أن تهمس ليانا:
"هل يمكن أن يكون أبى قد تراجع وأرسل إليكما الحراس مرة أخرى؟"

شد يونس قبضته حول سيف كان قد التقطه أثناء خروجه من الزنزانة. فيما قمر احتضنت الكتاب الذي بدأ يتوهج مرة أخرى، وكأنه يستعد لشيء قادم.

صاح يونس بصوت حازم، ووقف أمام قمر وليانا، مستعدًا لمواجهة أي شيء يقترب: 
"استعدوا"

ولكن ما ظهر أمامهم لم يكن بشريًا.من بين الظلال خرجت أطياف شفافة، تحمل ملامح ملوك قدامى، أعينهم تتوهج بوهج فضي. أحدهم تقدم وصوته العميق ملأ القاعة:
"من أنتم لتدخلوا هذه المكتبة؟ وما الذي تطلبونه؟"

رغم خوف قمر رفعت الكتاب وواجهت الطيف الذي تحدث:
"نحن نطلب الحقيقة دون سحر او شعوذة. هذا الكتاب قادنا إلى هنا ليكشف لنا الطريق."

تأملهم الطيف للحظة طويلة، ثم قال:
"الحقيقة لا تُمنح بسهولة. إن أردتموها فاستعدوا لاختبار إيمانكم وشجاعتكم."

مع هذه الكلمات بدأت المكتبة تتغير. الجدران اختفت وحل محلها فضاء لا نهائي مليء بالرموز المضيئة. الأرضية تحتهم أصبحت هشة، وكأنها قد تنهار في أي لحظة.

نظر يونس إلى قمر وقال بصوت منخفض:
"هل أنتِ مستعدة؟"

أجابت وعيناها مثبتتان على الطيف الذي يراقبهم:
"ليس لدينا خيار آخر"

وهكذا بدأ الاختبار الذي قد يغير مصير المملكة بأكملها.

 تحولت الأطياف إلى أشكال مظلمة وشرسة، يتطاير منها دخان أسود ووميض فضي يُظهر وجوهًا لا تحمل ملامح سوى الغضب. أطياف منيفة السحرية وقفت في مواجهة يونس. قمر. وليانا. كأنها جيشٌ لا يُقهر.

قبض يونس على سيفه بإحكام، نظراته حادة كالنصل الذي يحمله.صاح وهو يخطو أمامها:
"قمر، خلفي!"

لكن قمر تجاهلته ورفعت الكتاب عالياً. الضوء الصادر منه تزايد حتى بدا كأن شمسًا صغيرة اشتعلت بين يديها.

_"لا يمكنك حمايتي وحدك، يونس! نحن فريق، وعلينا مواجهة هذا معًا!"

تحركت الأطياف بسرعة هائلة، كأنها عاصفة سوداء تهبط فوقهم. ضرب أحد الأطياف سيف يونس، محدثًا شررًا قويًا كأن النصل اصطدم بصخرة. قفز يونس متفاديًا الهجوم ثم استدار ليصد طيفًا آخر كان يستهدف قمر.
صرخ وهو يصد الضربة تلو الأخرى:
"هذه ليست أطيافًا عادية!"

من الجانب الآخر رفعت ليانا خنجرًا ذهبيًا واندفعت نحو أحد الأطياف. عندما اخترق الخنجر الجسد الشفاف للطيف، انفجر في وهج فضي لكنه لم يختفِ بالكامل.
صاحت ليانا وهي تتراجع لتقف بجانب يونس:
"علينا إيجاد نقطة ضعفها!"

بدأ الكتاب يتحرك بين يديها كأن الصفحات تتقلب من تلقاء نفسها. ظهر على إحدى الصفحات رسم معقد يحتوي على دائرة بها رموز غريبة.

_"يونس! ليانا! علينا أن نحبس هذه الأطياف داخل الكتاب إنها الطريقة الوحيدة لهزيمتها!"

صاح يونس وهو يصد هجومًا آخر بصعوبة:
"وكيف سنفعل ذلك؟"

_" أحتاج إلى وقت لرسم الدائرة على الأرض. عليكم أن تبقوا الأطياف بعيدة عني!"

تبادل يونس وليانا النظرات سريعا لتفهم مقصده فوقفا كتفًا إلى كتف مستعدين للدفاع عن قمر.

_"لن تمروا!"
 صاح بها يونس وهو يقفز نحو أحد الأطياف، سيفه يلمع بضوء قمر خافت انعكس من أعلى.


 قاتل بشراسة نصل سيفه مر عبر الأطياف محدثًا انفجارات صغيرة من الضوء الأسود. ليانا، بخفة وأناقة، كانت تتحرك بسرعة خاطفة، تضرب بخنجرها الذهبي ثم تتراجع قبل أن تطالها الأطياف. كل ضربة كانت تبطئهم، لكنها لم تكن كافية للقضاء عليهم.

في تلك الأثناء كانت قمر جاثية على ركبتيها، تستخدم أصابعها لرسم الرموز على الأرضية الحجرية باستخدام ضوء الكتاب. يداها كانت ترتجفان، لكنها واصلت العمل بإصرار.

صرخ يونس وهو يتفادى بصعوبة ضربة أطاحت بحجر ضخم من الحائط:
" أسرعي يا قمر!" 

ردت بصوت مرتجف، لكن عيناها كانتا ثابتتين على المهمة:
"انتهيت تقريبًا!"

عندما اكتمل الرسم، ارتفعت الدائرة السحرية عن الأرض وتحولت إلى حاجز شفاف لكنه قوي، يحيط بهم وبالأطياف.
صرخت قمر:
"أدخلهم إلى الدائرة الآن!" 

دفع يونس أحد الأطياف بظهر سيفه، فيما ليانا رمت خنجرها بدقة، لتجبر طيفًا آخر على الدخول. عندما كان آخر طيف محاصرًا داخل الدائرة، رُفِعَ الكتاب فجأة، وبدأ الضوء يزداد قوة. الرموز على الأرض بدأت تتحرك، كأنها تنبض بالحياة.

وفي اللحظة الحاسمة. صرخ يونس:
"الآن ياقمر!" 

أغلقت الكتاب بقوة مما أطلق انفجارًا ضوئيًا قويًا. الأطياف بدأت تصرخ، أصواتها كانت مزيجًا من الغضب واليأس، قبل أن تتحول إلى غبار فضي يتلاشى في الهواء. 


تنفس الجميع بصعوبة. أخذوا ينظرون إلى بعضهم البعض بدهشة وخليط من التعب والانتصار. كانت اللحظة حافلة بالمشاعر وكأن كل شيء حولهم توقف عن الحركة باستثناء أنفاسهم المتسارعة.

همست قمر وعيناها تلمعان بتعب ممتزج بحماسة لا يمكن إنكارها:
"لقد فعلناها…"

 رفعت يدها تمسح العرق عن جبينها. والكتاب بيدها الأخرى وقد هدأ وهجه الغريب، لكنه لا يزال ينبض بطاقة خفية تشعر بها كأنها تيار يتدفق إلى داخلها.

انحنى يونس واضعًا يديه على ركبتيه، وجهه يحمل ابتسامة متعبة لكنها صادقة، ثم قال بصوت خافت لكنه مليء بالفخر:
"قلت لكِ أن تبقي خلفي، لكنكِ... أبدعتِ."

ضحكت بخفة لكن نظرتها ظلت مثبتة على الكتاب، كأنها لا تريد أن تتركه يغيب عن عينها ولو للحظة.
 في تلك اللحظة، التقطت ليانا خنجرها من الأرض، حركتها رشيقة لكنها مشحونة بطاقة غريبة، ثم قالت بنبرة حادة ولكنها مليئة بالاحترام:
"لم أعتقد أن هذا ممكن. أنتما فريق مدهش حقًا."

رفعت قمر الكتاب ببطء، تنظر إلى الغلاف الذي كان قد توقف عن إصدار الضوء، ثم فتحته بحذر وكأنها تتوقع أن يحدث شيء مفاجئ. قلبت حتى آخر صفحة دونت؟ ظهر نص واضح يتلألأ بحروف ذهبية:
"النصر يُولد من الوحدة. الطريق أمامكم مفتوح، لكن القرار بيدكم."

شعرت قمر بالثقل الذي تمثله هذه الكلمات وكأنها رسالة تخاطب أرواحهم لا عقولهم. أخذ يونس خطوة نحوها، ونظر إلى النص المكتوب بعناية شديدة قبل أن يسحب الكتاب منها ويقرأ بصوت مرتفع ما دُوّن على الصفحة الأخيرة:
"وهكذا أنقذت الأميرة ليانا مملكتها من شر سحر الأميرة منيفة، وعادت سرمد قوية بالحب والنقاء. انتصر الخير وزهق الشر، وعادت إليها صحتها لتشارك والدها في حكم المملكة، مزدهرة كما لم تكن من قبل."

نظر يونس إلى قمر مبتسمًا وكأنهما أخيرًا التقطا أنفاسهما، سرعان ما تلاشت تلك الابتسامة حين التفتا إلى ليانا... ولم يجداها.

_"أين هي؟" سأل يونس بقلق واضح، ونبرته تنضح بالذعر. كان يمسك الكتاب بقوة، وكأن عليه أن يحميه أكثر من أي شيء آخر.

حاولت قمر تهدئته:
"لا تقلق. انتهت مهمتنا في سرمد، وبقيت الأميرة هناك"

لم يقتنع تمامًا لكن كلماته خذلته أمام نبرة قمر الواثقة. أغمض عينيه للحظة قبل أن يفتحها وهو يقول ببطء:
"حسنًا... لكن أين نحن الآن؟"

نظرا حولهما كل شيء بدا مختلفًا. الحجارة المزخرفة للجدران، الرائحة الثقيلة للعطر القديم، والهدوء الغريب الذي يلف المكان. استدار يونس فجأة نحو النافذة الوحيدة في الغرفة، ونظر إلى الخارج بعجلة.

_"قمر!" هتف بصوت مرتفع مليء بالدهشة، ثم أكمل:
"نحن في القصر... لكن ليس في زمننا!"

اقتربت منه بخطوات سريعة ونظرت معه عبر النافذة. المشهد أمامها كان مهيبًا ومألوفًا بطريقة غريبة. الممرات الحجرية التي كانت تعرفها تبدو الآن أكثر حيوية، مليئة بالحركة والجنود والخيول. الهواء يحمل صدى أصوات بعيدة وكأن الزمن قد انقلب إلى الماضي.

همست بصوت خافت، لكنها كانت واثقة مما تقول:
"مقريُنوس…"

استدار ليواجهها بملامح مشدودة بين القلق والإثارة:
"لكن كيف... كيف أحضرنا الكتاب إلى هنا؟ ولماذا؟ ان رآنا إيليادور وابنته سينهيان أمرنا دون رحمة"

قبل أن تتمكن قمر من الرد سُمع صوت غريب قادم من خارج الغرفة، كأن شيئًا ثقيلًا يُجرّ عبر الممر. تبادلا نظرة سريعة، ثم هرع يونس نحو الباب بخطوات حذرة، فتحه ببطء لينظر عبر الشق. ما رآه جعل وجهه يشحب:
" نحن لسنا فقط في مقريُنوس. نحن في زمن الحروب."

صوت وقع أقدام ثقيلة وأوامر صارمة كان يتردد في الأرجاء. عادت قمر إلى الكتاب تبحث فيه عن أي إشارة، لكنها لم تجد سوى صفحة فارغة. ضغطت على غلافه بأصابعها وكأنها تحاول استنطاقه.

أردف يونس وهو يشير إليها أن تقترب:
"لا وقت للأسئلة الآن. يجب أن نجد مكانًا نختبئ فيه... أو نكتشف لماذا أحضرنا الكتاب إلى هنا."

رفعت رأسها ونظرت إليه عيناها تعكسان القلق ذاته الذي يملأه. لكنها لم تكن على وشك التراجع:
"هيا إذن، لنكتشف ما يخبئه لنا هذا الزمن."


في تلك اللحظة تردد صوت من الخارج بحدة وجدية، صوت يأمر وينهر الجنود كأنه صوت رجل قاسٍ اعتاد السيطرة. وقف يونس عند الباب، حاجبه منعقد وهو يحاول التمييز بين الكلمات المتداخلة. ثم مال ببطء نحو الشق لينظر إلى صاحب الصوت. ما إن وقعت عيناه عليه حتى تراجع إلى الخلف بصدمة واضحة، وجهه شاحب كأنه رأى شبحًا.

سألت قمر متقدمة نحوه بحذر:
" ماذا هناك؟ من بالخارج؟"

لكنه منعها من الاقتراب من الباب، ثم همس بصوت مرتعش:
"هذه... هذه منيفة! ولكن..." توقف لوهلة، وكأن عقله يحاول استيعاب ما رآه، ثم أكمل بصوت منخفض مليء بالدهشة:
"لكنها عجوز! حين رأيتها كانت شابة وقوية... ماذا حدث؟ كم من الزمن مر أثناء محاربتنا للأطياف؟"

لم تستطع قمر كبح فضولها، فانحنت لتقترب من الباب. لكنها قبل أن تفتحه، منعها مجددًا:
"لا! لا يمكننا المخاطرة برؤيتها لنا الآن. قد تكون هذه فرصتنا الوحيدة لفهم ما يجري."

تراجعت قليلاً ثم نظرت إلى الكتاب الذي تحمله، وكأنها تستدعي منه إجابة. فتحته بسرعة وبينما تقلب الصفحات، ظهرت كلمات جديدة على الصفحة الأخيرة، بخط ذهبي خافت يكاد يكون أشبه بالهمس. قرأتها بصوت منخفض، كأنها لا تصدق ما تقرأ:

"بعد وفاة الملك إيليادور نتيجة خطأ كارثي أثناء قيام منيفة بأحد طقوس السحر المظلم، أصبحت هي الوريثة الوحيدة لعرش مقرينوس.
تولت الحكم بقبضة من حديد، مستندة إلى قوة مزيفة وسحر متقلب، لكنها سرعان ما وجدت نفسها محاصرة بالهزائم. كل تعويذة لجأت إليها انقلبت ضدها، لتكشف هشاشة حكمها أمام الجميع.
مرّت عشرة أعوام عجاف، خلالها تكالبت الممالك المجاورة على مقرينوس، راغبة في الثأر منها واستغلال ضعفها. ومع تصاعد الغضب ضدها، لم تجد منيفة أمامها مفرًا سوى اللجوء إلى أكثر أساليبها جبنًا وخداعًا: إخفاء أثر مملكتها بالكامل عن العالم، أملاً في النجاة من بطش خصومها، الذين تعهدوا بالانتقام من جرائمها."

صمتت قمر للحظة بعد أن أنهت القراءة، ثم رفعت نظرها إلى يونس، الذي كان يحدق بها وكأن الكلمات التي نطقت بها كانت سكاكين اخترقت روحه.

_"عشرة أعوام..." تمتم يونس بصوت خافت، ثم استند إلى الجدار وكأنه يحاول استيعاب الفجوة الزمنية التي وجدوا أنفسهم فيها. أكمل بنبرة مليئة بالحيرة:
"كل هذا حدث ونحن نقاتل الأطياف؟ كيف يمكن أن يمر الزمن بهذه السرعة هناك؟"

أغلقت الكتاب ببطء ثم قالت بنبرة متماسكة رغم اضطرابها الداخلي:
"السحر هنا... ليس كما توقعنا. يبدو أن كل ما يحدث في مقرينوس مرتبط بزمن متقلب وغير مستقر. لقد عشنا تلك المعركة وكأنها دقائق لكن هنا مرت سنوات."

قبل أن يتمكن أي منهما من التحدث أكثر، عاد الصوت بالخارج ليعلو من جديد، هذه المرة كان أكثر حدة، وكأن صاحبه يفقد السيطرة:
"أين هم؟ لا يمكن أن يكونوا قد اختفوا بهذه السهولة!"

ضغط على فكه ثم أشار لقمر أن تبتعد عن الباب. تحرك بحذر ليعيد النظر عبر الشق الضيق. رأى منيفة، لكنها لم تكن المرأة الشابة المفعمة بالقوة التي واجهها من قبل. كانت عجوزًا، وجهها مشوه بالتجاعيد، وعيناها مليئتان بالحقد والخوف معًا. كانت تتكئ على عصا مزخرفة، ويدها الأخرى ترتعش، لكنها ما زالت تحاول فرض سلطتها.

_"إنها منهكة..." تمتم يونس، ثم أكمل:
"لكنها ما زالت خطيرة. لا أستطيع أن أصدق أن هذه هي نفس المرأة التي أرعبت المملكة كلها."

لم ترد بل أعادت فتح الكتاب مجددًا. الكلمات السابقة كانت ما تزال تتلألأ، لكن فجأة ظهرت جملة جديدة أسفل النص الذي قرأته. جملة قصيرة، لكنها حملت كل الإجابات التي كانت تبحث عنها:
"البوابة التالية.. بوابة النجاة."

رفعت عينيها إلى يونس وقالت بصوت واثق، رغم التوتر الذي بدأ يتسلل إلى نبرتها:
"علينا التحرك. إن طبقت سحرها قبل أن نجد ميثال فسنختفي مع مقرينوس، يجب أن نجد ميثال ونعود أدراجنا بالكتاب كى نعلن من خلاله تاريخ مقرينوس ونظهر أثرها للعلن. وإلا فسينتهي كل شئ وننتهي معه"


"لم يكن الزمن رحيمًا بمقرينوس، فكل حجر في جدرانها بدا وكأنه يحمل صرخات الماضي وآثام حكامها."

يتبع ….
لحين نشر الفصل الجديد يوم الاثنين القادم ان شاء الله.

لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.


مقرينوس الفصل الثالث والعشرون
Wisso

تعليقات

5 تعليقات
إرسال تعليق
  • غير معرف26 ديسمبر 2024 في 11:47 م

    احداث مشوقه جدا تسلم ايدك حبيبتي

    حذف التعليق
    • salwanader30 ديسمبر 2024 في 12:56 ص

      تسلم ايديكي الجميله حبيبتي

      حذف التعليق
      • salwanaded30 ديسمبر 2024 في 12:58 ص

        الحلقه رائعه الوحده والتماسك قدرت انها ترجع سرمد لعهدها ونجح يونس وقمر في افشاء السلام ورجوع المملكه للازدهار مره تانيه

        حذف التعليق
        • غير معرف30 ديسمبر 2024 في 12:59 ص

          كل حلقه بتشدنا لسحر اقوي وعظمه اكبر بجد مقرينوس تختلف

          حذف التعليق
          • غير معرف30 ديسمبر 2024 في 12:59 ص

            تسلم ايديكي سميحه مع كل كلمه بتسحبينا نعيش الحياه وكأننا جوه فجوه الزمن بجوار يونس وقمر تسلم ايديكي حبيبتي

            حذف التعليق
            google-playkhamsatmostaqltradent