رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
"ملتفت لا يصل"
الملتفت لا يصل والطرق لا تنتظر المترددين، الأحلام تنطفئ إذا ما استنزفها الماضي. كف عن الالتفات، كف عن البحث في الرماد عن شرارة قديمة، وامض مهما كان الثقل، مهما كان الحنين.
فالمسافات تُقطع بالثبات، لا باإالتفات.
___________
يقف الملك أمام زهرة سرمد. تلك الزهرة الاستثنائية في حضورها، تتمايل بخفة تحت نور الشمعدانات وكأنها كائن حي يتنفس الجمال والسر. ألوانها، التي جمعت بين وهج القمر ولمعان النجوم، بدت كأنها تروي حكاية أزلية لا يفهمها سوى من امتلك قلبًا صادقًا.
رسم الملك يده فوق بتلاتها لكن دون أن يلمسها وكأن اقترابه منها قد يغير شيئًا في سحرها الغامض. تلك الزهرة التى لا تزهر إلا حين يولد حب حقيقي في القصر، لكنه لم يرَ من يونس سوى انشغال غريب وغموض يلف خطواته. تساءل في صمت مرير:
"إذا كان الحب قد وُلد في القصر... فمن يكون طرفاه؟"
---
في غرفته…
يقف يونس خلف الباب. أنفاسه متقطعة. عيناه تراقبان الفراغ بين خشب الباب وأرضية الغرفة، كأنهما تنتظران أي ظل يتسلل من الخارج. أدنى صوت قد يقطع سكون القصر يجعله يرتجف. حين لم يعد هناك ما يدعو للقلق أغلق الباب برفق واستدار.
تنفس بعمق وهو يقول بنبرة مشوبة بالإرهاق:
لا يمكننا الاستمرار بهذا الشكل. هذه المرة صدق الملك كذبتنا حين قلنا أنني كنت أتجول ورأيت أشياء غريبة... ولكن إلى متى؟ كيف يمكننا الذهاب إلى الكهف دون أن نلفت الأنظار؟
كانت قمر تقف أمام الطاولة الخشبية العتيقة حيث يتواجد الكتاب الفارغ. تتأمل بعمق وعيناها تتنقلان بين حروف غير موجودة على الصفحات البيضاء. وكأنها تسمع همسات خفية من الكتاب، أو ترى ما يعجز الآخرون عن رؤيته.
قال يونس، محاولاً كسر الصمت الثقيل:
قمر... بماذا تفكرين؟
لم ترفع عينيها لكنها همست بصوت أقرب إلى التفكير منه إلى الإجابة:
لو كانت خطوتك نحو الكهف صحيحة... لكان ظهر شيء في هذا الكتاب. الكتاب ليس مجرد أداة؛ إنه مرآة. يعكس الحقيقة. ما دام الكتاب فارغًا فلا يمكننا الاطمئنان لهذا الكهف.
صمت يونس محاولاً استيعاب كلامها. تحركت أفكاره مثل دوامة، لكنها توقفت عند ذكرى الخيال الذي رآه في الكهف. رفع عينيه نحوها وقال بصوت خافت:
الشيء الغريب بالنسبة لي. هو الخيال الذي حادثني هناك.
التفتت إليه ببطء وكأن كلماته أيقظت في ذهنها شيئًا كانت قد تناسته. لكنه استمر وكأن الحديث كان موجهًا لنفسه أكثر مما هو لها:
منذ وصولنا إلى هنا وكل شيء يسير بمبدأ التبادل. نحن نقدم شيئًا معنويًا لنحصل على شيء مادي. الجوهرة، العقد، الكتاب، وحتى... راشد.
نطقت قمر اسم الطائر بسرعة وكأنها تمسكت بخيط الفكرة:
راشد؟
التفتت بسرعة نحو النافذة تبحث بعينيها عن الطائر. الذى يقف في الخارج على إحدى الحواجز الحجرية، جناحاه مطويان وكأنه يصغي لما يدور داخل الغرفة. شعرت بشيء غريب ينبعث منه؛ هيئته مألوفة لكنه بدا وكأنه يحمل شيئًا دخيلًا، شيئًا لا ينتمي لراشد الذي عرفته.
خطت نحوه بحذر لكن ما إن اقتربت حتى فتح جناحيه وطار فجأة، محلقًا في دوائر قصيرة قبل أن يبتعد عن القصر. عادت إلى الداخل بسرعة قلبها ينبض بشدة، وقالت بصوت منخفض ولكن مشحون بالقلق:
هذا... ليس راشد.
تصلبت ملامح يونس وأغمض عينيه وكأنه يحاول أن يهرب من فكرة تفرض نفسها عليه. قال بصوت ثقيل:
أيعقل أن تكون منيفة قد اكتشفت أمرنا؟
أومأت قمر بحركة خفيفة وهي تحاول تهدئة تدفق الأفكار في ذهنها:
هذا مؤكد. كل شيء في الكهف كان يبدو غريبًا... ساحرًا لكنه زائف. كان مجرد وهم من صنعها. حتى راشد المزيف. كان موجودًا فقط ليضللك ويمنحك شعورًا زائفًا بالأمان تجاه ذلك المكان.
ساد الصمت للحظات ثقيلًا ومشحونًا بالاحتمالات. تبادلا النظرات لكن لم يكن هناك حاجة للكلام. كلاهما يعلم أن كل خطوة قادمة ستكون محفوفة بالخطر. وأن قصر منيفة بات يضيق عليهما.
مرت ساعات لم يهدأ عقل يونس ولم يعرف الراحة خلالها. في وسط الغرفة يذرع المكان جيئة وذهابًا، وملامحه متوترة. كان راشد الحقيقي. الطائر الغامض الذي بدا وكأنه يعرف أكثر مما يظهر، يشكل لغزًا لا يستطيع تجاهله.
_"يجب أن نجد راشد"
قال يونس بصوت حاسم، وأشار بيده نحو الكتاب الذي ما زال مستقرًا على الطاولة:
"هناك سر خلف هذا الطائر، شيء يخفيه عنّا وإذا عرفناه سنقترب أكثر من الحقيقة."
كانت قمر جالسة على كرسي قرب النافذة تضغط جبهتها بإصبعين كما لو كانت تحاول تهدئة أفكارها. رفعت رأسها ونظرت إليه ببرود مقلق:
"يونس! هل تسمع نفسك؟ نحن نتبع ألغازًا داخل ألغاز. إذا أضعنا وقتنا في البحث عن كل شيء يبدو غريبًا أو مثيرًا للفضول، فلن نصل إلى أي شيء. يجب أن نركز على ما بين أيدينا الآن."
توقّف يونس عن الحركة ونظر إليها بدهشة مردفًا:
" هذا ليس مجرد فضول. راشد هو جزء من هذا كله. كيف يمكنك أن تطلبي مني تجاهله؟"
لكن قبل أن ترد حدث شيء غريب. عاد وهج الكتاب فجأة، كما لو أنه استجاب لشيء ما في نقاشهما. نظرا كلاهما إلى الكتاب بانتباه شديد. خفت التوتر بينهما للحظة وانحنى يونس بسرعة ليفتح الغلاف.
ظهرت أمامهما الصفحات المضيئة مرة أخرى، تعرض ما كان قد ظهر سابقًا. الصور. الرموز. والأحداث التي مرّا بها، وكأن الكتاب يعيد تذكيرهما بكل شيء. ولكن هذه المرة. كانت هناك صفحة جديدة. عنوانها كبير مكتوب بخط غامق ومتوهج: "ملتفت لا يصل".
قرأ يونس العبارة بصوت عالٍ:
"ملتفت لا يصل... ماذا يعني هذا؟"
نظر إلى قمر بحيرة، لكنها لم تجبه. كانت عيناها مثبتتين على الكلمات كأنها تحاول فك شيفرتها.
أعاد يونس الصفحة مرة أخرى. ثم مرة أخرى. كما لو أنه يحاول أن يجد خطأ أو تفصيلًا خفيًا. لكن العبارة بقيت كما هي، تلمع بنور باهر لا يترك مجالًا للشك.
تنهدت قمر وقالت بنبرة هادئة ولكن حاسمة:
"هذا تأكيد يا يونس، إذا واصلنا الالتفات إلى كل شيء من حولنا، لن نصل إلى وجهتنا. الكتاب نفسه يقول ذلك."
ظل يونس صامتًا للحظة ثم أغلق الكتاب بهدوء. جلس على الكرسي المقابل لقمر ودفن وجهه بين كفيه:
"ربما أنت على حق... لكن كيف نعرف ما الذي يجب أن نركز عليه؟"
ابتسمت قمر ابتسامة صغيرة أقرب إلى الحزن منها إلى الفرح قائلة:
"هذا هو اللغز الحقيقي يا يونس. ونحن هنا لنحله معًا."
______________
بعد مرور وقت قررا خلاله أن يكملا ما اتفقا عليه، اطمئنا حين عاد الكتاب ليساعدهما من جديد.
وقفت قمر عند باب جناح الأميرة ليانا. تتأمل الباب للحظات مترددة بين المضي قدمًا أو التراجع. لكنها تنفست بعمق، وضغطت على قبضة الباب بلطف. فتح الحراس لها الطريق دون تردد، فقد كانوا على دراية بمكانتها وثقة الملك بها.
عندما دخلت الغرفة وجدت الأميرة ليانا جالسة بجانب النافذة، تنظر إلى الخارج وكأنها تبحث عن شيء مفقود في الأفق. كانت الوحدة واضحة على ملامحها. وعيناها تحملان بريقًا باهتًا من الحزن المكبوت.
سألت الأميرة بنبرة متفاجئة، لكن بترحيب خافت:
"قمر؟"
قالت قمر بنبرة دافئة محاولة تهدئة أي شكوك قد تراود الأميرة:
"أميرة ليانا، أتيت لبدء جلسة العلاج التي تحدثنا عنها. إذا سمحتِ لي."
أومأت ليانا برأسها ثم أشارت إلى أحد الكراسي القريبة: "بالطبع، ثقة والدي بك كبيرة، وأنا... أنا بحاجة إلى المساعدة."
وضعت قمر حقيبة صغيرة على الطاولة، وأخرجت منها شريط دواء يحمل طابعًا غريبًا أثار فضول ليانا.
سألت ليانا بتردد تحدق في الدواء:
"ما هذا؟"
ابتسمت قمر بلطف:
"إنه دواء خاص يساعد على تهدئة الذهن وفتح مساحات الوعي. لا تقلقي. إنه آمن تمامًا، ولكن تأثيره قد يكون غريبًا قليلاً في البداية."
نظرت ليانا إلى القنينة، ثم إلى قمر. ترددت لوهلة. لكنها أخيرًا قالت بصوت منخفض:
"سأجربه."
قدمت لها قمر الدواء، وأخذته ليانا ببطء. بعد لحظات من التردد شربت الجرعة الصغيرة ثم تمددت على السرير كما طلبت قمر. جلست قمر على الكرسي المجاور، وأمسكت بيد ليانا بلطف.
_"أريدكِ أن تسترخي، وأن تتركي أفكارك تتدفق كما هي. لا تحبسي شيئًا، فقط تحدثي عن كل ما يؤلمك."
ظل الصمت للحظات قبل أن تبدأ ليانا بالكلام، كأنها تخشى أن تنكسر إذا نطقت:
"أشعر أنني عالقة... عالقة بين توقعات الجميع ورغباتي أنا. أبي يريدني أن أكون قوية، أن أكون رمزًا للعائلة، لكنني أشعر أنني مجرد ظل لكل من حولي."
استمعت قمر بصمت، لم تقاطعها بل كانت عيناها تشعّان بالتعاطف.
تابعت ليانا وبدأت نبرتها تتغير، تمتزج بين الألم والغضب:
"حتى أمي... كانت تعاملني كأنني مشروع لم يُكمل بعد. لم أكن كافية لها يومًا. أتعلمين كيف يكون الشعور عندما تُصبحين معيارًا لا يمكن الوصول إليه؟"
قمر شدّت على يدها برفق وقالت:
"أنا هنا لأستمع ولأساعدكِ في تخفيف هذا الحمل. أنتِ لستِ وحدكِ يا ليانا."
بدأت ليانا تفتح قلبها أكثر. تتحدث عن مخاوفها، عن الوحدة التي تخنقها في جناحها، عن الأحلام التي تراودها والتي لا تستطيع تحقيقها لأنها دائمًا تخشى الفشل. وكلما تحدثت، شعرت كأن جزءًا من ثقلها يُرفع.
بعد ساعة أو أكثر توقفت ليانا عن الكلام. كانت عيناها دامعتين، لكن وجهها بدا أكثر هدوءًا مما كان عليه. نظرت إلى قمر وقالت بصوت خافت:
"شكراً لأنك استمعتِ. لم أتوقع أن أتحدث بهذا الشكل مع أحد."
ابتسمت قمر بلطف وربتت على يدها:
"هذه البداية فقط يا ليانا. ستكتشفين قوتكِ مع الوقت. أنا هنا معكِ، ولن أترككِ حتى تستعيدي نفسك."
خرجت قمر من الجناح بعد ذلك، وملامحها تحمل خليطًا من الرضا والتفكير. شعرت أنها خطت خطوة صغيرة نحو مساعدة الأميرة، لكنها أدركت أيضًا أن الطريق أمامهما ما زال طويلًا ومليئًا بالتحديات.
___________
هناك في قصر مقرينوس…
في غرفة منيفة…
تقف الأميرة أمام نافذة مفتوحة، الرياح تعبث بشعرها الطويل وملابسها السوداء. بجانبها تقف البومة مرام تحطّ على قائم خشبي منحوت بعناية. كانت البومة تراقب سيدتها بنظرات حادة، كأنها تفهم كل كلمة تنطقها.
_"مرام، يظنون أنهم انتصروا عليّ؟"
قالت منيفة بصوت منخفض لكن مسموم:
"تلك الفتاة... قمر. لولاها، لكان يونس الآن أسير الكهف الذي صنعتُه لهم. لكن لا بأس، سأبدأ بها. إنها النقطة الأضعف."
بدأت تسير في الغرفة تدور حول البومة التي كانت تتابعها بعينيها الثاقبتين:
"يونس ضعيف أمامها. إذا قضيت عليها، سينهار بسهولة. ثم سأجعل منه عبرة لكل من يتجرأ على الوقوف في طريقي"
توقفت فجأة ونظرت إلى البومة، وكأنها تشاركها الخطة:
"مرام، أريدك أن تراقبيها عن كثب. اكتشفي متى تكون وحدها، أو بعيدة عن يونس. وسأكمل من حيث أخفقت خطتي السابقة."
رفعت مرام جناحيها وكأنها فهمت الأمر تمامًا، ثم انطلقت من النافذة بسرعة مذهلة، متجهة نحو ظلام الليل، تاركة منيفة تغرق في أفكارها الشريرة.
_"لن تنجوا مني هذه المرة، قمر. ولن أسمح لأي أحد أن يعترض طريقي، لا أنتِ، ولا يونس، ولا حتى ثورين نفسه."
ابتسمت ابتسامة باردة، عيناها تلمعان بوميض قاسٍ.
---
على الجانب الآخر في سرمد. يقف الملك ثورين وحده في جناحه الفخم، أمام مرآة ضخمة تعكس ملامحه القوية، لكنها هذه المرة كانت تعكس أيضًا قلقه وشكوكه. أسند يديه على الطاولة أمامه، وأخذ نفسًا عميقًا. همس لنفسه:
"قمر ويونس..."
وكأن ذكر اسميهما يشعل في ذهنه سلسلة من الأفكار التي كان يحاول جاهدًا كبتها:
"منذ أن وصلا إلى هنا، تغيرت أشياء كثيرة. خططي للزواج من منيفة، التي لا أثق بها تمامًا، توقفت فجأة. هل كان ذلك صدفة؟ أم أن وجودهما هنا له علاقة بذلك؟"
خطا بضع خطوات عبر الغرفة، عيناه مثبتتان على الأرضية الملمعة:
"يونس... هذا الرجل يبدو شجاعًا، لكنه غريب الأطوار. وقمر... هي لا تبدو كأي طبيبة عادية. تبدو كأنها تحمل شيئًا أكثر من مجرد خبرة طبية. شيء لا أستطيع تحديده."
بدأ الشك يتغلغل في أعماقه:
"ماذا لو... ماذا لو كانا جواسيس من منيفة؟ ماذا لو كانت خطتهما الحقيقية هي تعطيل زواجي منها لتُبقي القلعة تحت سيطرتها؟"
توقف فجأة. ورفع رأسه. عاقدًا حاجبيه:
"لكن لماذا؟ لماذا أشعر أنني أفتقد قطعة من هذا اللغز؟"
نظر إلى نافذة غرفته، حيث ألقى ضوء القمر ظلالًا على وجهه المرهق.
في أعماق قلبه لم يكن متأكدًا من أي شيء. قمر ويونس يثيران فضوله لكنهما أيضًا أشعلاه بشكوك لم يستطع التخلص منها:
"إذا كانا حقًا من طرف منيفة، فسأكتشف ذلك قريبًا. وإذا كانا عكس ذلك... فلعل وجودهما هو الذي سيكشف نواياها الحقيقية."
عاد الملك للوقوف أمام المرآة ومرة أخرى رأى انعكاسه، هذه المرة أكثر حزمًا:
"عليّ أن أراقب الجميع. لا مجال للثقة الآن."
في تلك اللحظة ارتفع صوت الرياح في الخارج، وكأنها تحمل رسالة تحذير لكل الأطراف في هذا الصراع الخفي، الذي يقترب من لحظة الانفجار.
غرق الملك في سكون عميق لم يُقطعه إلا صوت أنفاسه الثقيلة، وكأن كل ذرة في الغرفة تحذر من شيء قادم. تحرك الملك ليقف عند نافذته الكبيرة، يحدق في الأفق المظلم، بينما الرياح تلعب بستائر الغرفة الموشّاة بالذهب.
قطع هذا السكون صوت طرقات خفيفة على الباب.
هتف بصوت خفيض لكنه حازم، وكأن السكون أرهقه:
"ادخل!"
دخل الحارس بانحناءة رسمية:
"مولاي، يونس يطلب المثول أمامك. يقول إن لديه أمرًا عاجلًا للحديث فيه معك."
التقط ثورين نفسًا عميقًا، وعيناه تتوجه نحو الباب للحظة. ثم أومأ برأسه ببطء:
"دعه يدخل."
لحظات وظهر يونس وجهه يعكس مزيجًا من التعب والعزم. تقدم بخطوات محسوبة ثم قال:
"مولاي، أشكرك على السماح لي بالتحدث معك."
جلس ثورين على كرسيه المزخرف، وقد بدت عليه علامات النفاد من كل شيء: الصبر. القوة. وحتى الحلم بالسلام. أشار بيده إلى يونس ليبدأ:
"قل ما لديك، يونس، لكن اجعل حديثك واضحًا ومباشرًا. هذه ليست ليلة لألعاب الكلمات."
تقدم يونس خطوة، ثم قال بنبرة خافتة لكنها حادة: "مولاي، لقد قضيت الأيام الماضية في محاولة فهم ما يجري هنا. وربطت بين أحداث الماضي والحاضر. الحقيقة التي توصلت إليها ثقيلة، لكنها ضرورية لك وللمملكة."
توقف للحظة ليرى ما إذا كان الملك يصغي. حين لم يقاطعه، تابع:
"سرمد ليست مجرد مملكة. إنها مملكة الحب والسلام، وهذا هو جوهرها. لكنني أشعر أنك نسيت ذلك يا مولاي. تمامًا كما نسي ملك مقرينوس، حين اختار الغضب والسحر على حساب قيم مملكته."
شد ثورين قبضته على مسند كرسيه، لكن صوته كان ثابتًا:
"وما الذي يعنيه ذلك، يا يونس؟"
_"يعني أن سرمد، إذا استمرت على هذا الطريق، ستخسر المعركة قبل أن تبدأ. لن تكون هناك حاجة لجيش يغزوها. ستنهار من الداخل."
نظر الملك إليه بعينين حادتين، وكأنه يحاول التحقق مما إذا كان يونس يسخر منه:
"وكيف ذلك؟"
"مملكة الحب لا تُبنى على الإجبار أو الكراهية. إذا أجبرت نفسك على الزواج من منيفة بدافع الانتقام، فإنك تهدم أساس سرمد بيديك. الحب لا يمكن فرضه، والمملكة التي تبنى على الكراهية ستنهار عاجلًا أم آجلًا."
ثار الغضب في وجه ثورين، وقاطع يونس بصوت عالٍ: "وأين كان هذا الحب والسلام عندما قتل إيليادور ابني؟ أين كانت العدالة؟!"
تقدم يونس خطوة أخرى، مثبتًا نظره في عيني الملك: "علمت بمقتل ابنك. وفهمت كم كان ذلك مؤلمًا. لكنني أقول لك وللأسف إن معركتك الآن محسومة بقرارك وحدك. عليك أن تختار: الانتقام لابنك أم إنقاذ وطنك."
ارتفع صوت الملك بغضب، ووقف من كرسيه فجأة، ليقول:
"وكأنك تعرف كل شيء! يبدو أنك أتيت هنا بعلم أكثر مما يجب. من أنت حقًا؟ جاسوس من طرف منيفة؟"
تراجع يونس خطوة ورفع يديه بهدوء:
"أقسم لك أنني لست جاسوسًا. لكنني أعلم أن منيفة تتربص بك وبنا جميعًا. هي تسعى للسيطرة على سرمد، لا لتحالف أو سلام. وإن استمرت الأمور كما هي، فإن سرمد ستلقى نفس مصير مقرينوس."
تردد ثورين للحظة، ثم قال بصوت أقل حدة:
"وما هو مصير مقرينوس؟"
_"النسيان، مولاي. مقرينوس ستصبح المملكة المفقودة. سينقلب السحر على الساحر، وستختفي منيفة ووالدها من التاريخ، كما لو أنهما لم يكونا. هذا هو القدر الذي ينتظرهما، لكن سرمد يمكن أن تنجو. يمكنها أن تزدهر إذا اخترت الطريق الصحيح."
جلس الملك مجددًا وكأن وزن كلام يونس قد أثقل كاهله. لكنه لم يخفِ شكوكه:
"وكيف تعرف هذا كله؟ هل تطلع إلى المستقبل؟"
_"لا يمكنني أن أخبرك كيف علمت؟ لكن ما أعرفه هو أنني هنا لإنقاذ مملكتك. وقمر هنا لمساعدة الأميرة ليانا. علاج الأميرة هو الخطوة الأولى لإعادة التوازن. سترى بنفسك كيف ستبدأ المملكة في التعافي. لكن هذا العلاج وحده لن يكفي. عليك أن ترفض الزواج من منيفة. عليك أن تمضي قدمًا، مولاي، وأن تتوقف عن النظر إلى الماضي."
رفع ثورين حاجبه:
"أتطلب مني أن أنسى مقتل ابني؟ أن أتجاهل دمي وكرامتي؟"
هز يونس رأسه ببطء وقال:
" بل أطلب منك أن تثق بعدالة السماء. لا تلتفت للثأر يا مولاي. الملتفت لا يصل. يجب أن تختار: وطنك أو ماضيك. ولكني أعدك، إذا اخترت وطنك، فسيزدهر مرة أخرى."
ظل ثورين صامتًا للحظات يدرس وجه يونس وكلماته، وكأنه يحاول العثور على كذبة أو خدعة. وأخيرًا،
قال بصوت خافت لكنه حازم:
"كلماتك ثقيلة يا يونس. لكنني سأحتاج وقتًا للتفكير. وحتى ذلك الحين، اعلم أنني سأراقبك أنت وقمر. وأي خطأ منك سيكون له ثمن لا يمكنك تحمله."
اومأ يونس برأسه:
"كما تشاء، مولاي. سأفعل كل ما بوسعي لحماية سرمد."
غادر يونس الغرفة، تاركًا الملك غارقًا في أفكاره، بمجرد أن خرج صدح صوت الملك ينادي الحارس، وما إن دلف حتى أردف له:
"عينك عليه أينما ذهب أريد أن أعلم بكل كبيرة وصغيرة بخصوصه، وكل ما يخطط له مع قمر"
يتبع… لحين نشر فصل جديد يوم الخميس الساعة الثامنة مساءا ان شاء الله.