رواية الليالي المظلمة
من أعظم العبادات عند الله جبر الخواطر، أن يكون العبد جبرًا و سندًا وعونًا للجميع في الشدائد والمحن، فالحياةٌ يا سادة رحلة طويلة صعبة ومعقدة مليئة بالصعوبات والتعثرات والسقوط والنهوض لا يمكننا وحدنا ان نتخطى كل ذلك، لذا يتوجب علينا أن نمد يد العون للآخرين دوما ومساعدتهم على تخطي الصعوبات بوقت الابتلاء عسى أن يجبر الله خاطرنا بمن يساعدنا على الوقوف عندما نسقط، نرى بيننا أناس طيبون لا يهون عليهم أن يروا أحدًا محتاجًا أو حزينًا أو متألمًا أو مريضًا أو جائعًا أو ينقصه أيّ شيء دون أن يسارعون إلى تلبية احتياجاته جبرًا وتقربًا ورغبة بابتغاء رضى الله عليهم، نعلم انه ليس من السهل إصلاح جميع المشاكل التي بحياة من حولك وإزالة جميع العقبات التي تقف في وجههم، ولكن إزالة بعضها سيجعلهم يشعرون بالسعادة، كما لست مضطر على التضحيات الكبيرة وإنفاق الأموال الطائلة لتحقيق ذلك حتى ان بعض الناس لا يريدون و لا ينتظرون منا فعل المستحيل لكي نشعرهم بالسعادة فمجرد كلمة طيبة قد تشفي الصدور وتفرح القلوب وتجبر الخواطر لها ثواب عظيم مردود لك بالدنيا وله ثواب عظيم بالاخرة.
تذكروا دائما يا أخواتي أن من جبر خواطر الناس جبر الله خاطره ربنا يجعلنا جبرًا لكل محتاج وحزين ومريض ومكروب وقريب
اللهم إنَّ نسألك جبرًا يتعجب منه أهل السماوات وأهل الأرض اللهم أجبر كسر قلوبنا وأصلح بجبرك ما افسدته الحياة بنا وتقبلنا تقبل حسن قادر يا كريم.
ساد الصمت ليأن الحزن بقلوب من حولها وهم يشهدون على تلك الفتاة المسكينة التي سرعان ما تتغير وينقلب حالها كلما صادفت رجل بقربها.
تحركت آسيا لتقترب منها وهي مشفقة عليها "انا آسيا. هيا لنذهب لمنزلك. هيا لنذهب معاً هيا"
وبجسدها مرتجف استجابت سيلين لها وبدأت بالسير معها دون ان تفتح اعينها او تسقط يدها عن اذنها اثناء صعودها لمنزلها
تحرك باريش وحسن خلفهم يتحسسون الخطى كي لا تشعر بهم، أخرج باريش مفتاح المنزل وأعطاه لآسيا التي فتحت الباب قائلة بصوت منخفض "ها نحن وصلنا لمنزلك"
دخلت سيلين منزلها مسرعة بهروبها لغرفتها مغلقة الباب بالمفتاح جالسة خلفه تبكي بصوت عالي.
تحركت آسيا لتخرج من المنزل وهي تنظر لهاتفها متحدثة بعدها بصوت منخفض
"أمي تتصل بي. سأذهب وأعود مجددا لأطمئن عليها"
اومأ باريش رأسه لها وهو يتابع بعينيه نزولها على الدرج.
تحدث حسن "هل سنتركها تبكي وحدها؟"
تقدم باريش خطوات داخل المنزل ليتبعه حسن وهو يتفقد المكان.
تفاجأ كلاهما بصوت سيلين يصل لهم وهي تقول
"لا يمكنك لمسي. لا تقترب مني. ابتعد عني"
اختلط البكاء بالصراخ والدفاع عن النفس "اتركني. ابتعد عني"
صدما مما سمعا نظرا لبعضهما البعض ظلت سيلين تحارب وتجاهد أقدارها المظلمة وحدها دون أن يستطيع أحد التدخل لإنقاذها خوفا من سوء حالتها اكثر ان اقتربا منها ولو بالصوت من بعيد، تحركا بحزنهما الكبير ليقتربا من باب المنزل بعد أن قررا الخروج وتركها.
أغلق باريش الباب بهدوء كبير كي لا تسمع صوته متحدثًا بعدها
"تأكدت من شكوكِ الآن. أنت محق بحديثك السابق هناك أمر كبير قد حدث معها. لربما يخص عائلتها أو بالأحرى يخصها هي. يعني بهذا الوضع وما رأيناه قبل قليل يؤكد أنها تعرضت للتحرش او الاغ..."
صمت باريش بحزن كبير دون أن يكمل آخر كلماته من شدة ثقلها على قلبه.
نزلا الدرج وكلا منهما يحمل على وجهه تأثير ما حدث، لم يرغب حسن بتركها
"كيف سنتركها هكذا بمفردها؟"
ليرد عليه باريش
"لا يمكننا التدخل الان. أخشى أن يتصاعد الأمر ويزداد سوءاً"
مضت ساعات عصيبة مظلمة على سيلين وهي خلف الباب ترتجف خوفًا وذعرًا وهي ترى أمامها وجه زوج أمها
كانت تشعر بيده تتحرك على جسدها لتزيد من سوءها وارتجافها.
هربت مسرعة لفراشها مختبئة تحت غطائها وهي تضع وجهها داخل وسادتها في محاولة منها ان تختبئ من شبحه الذي كان يطاردها كل ليلة دون أن تنجح بذلك فكان ذلك الحيوان البشري قد انهاها عصبيًا ونفسيًا لدرجة جعلت خياله وشبحه يطاردها بكل رجل يقترب منها.
جاء لمسامعها صوتها وهي تستنجد بأمها لتعود من جديد صارخة
"أمي. أمي" لتأتيها نفس النتيجة التي كانت تأتيها دومًا لا منجد لها منه، وهذا ما حدث حين استغل ذلك الحيوان تعاطي امها أدوية منومة بسبب مرضها العصبي لتنام منفصلة عن محيطها، لينفرد بها ويبدأ بتجريدها من ملابسها ليفعل ما يريد دون هتك عذريتها لتكون حجة له امام امها وجميع من كانوا لا يصدقون ما تقوله لهم.
يمثل الأبوة المفرطة للابنة الوحيدة لزوجته أمام الجميع لكي يقنعهم ببراءته وظلمها له.
مع الاسف عاشت هذه الفتاة المسكينة ليالي مأساوية مظلمة تتحمل فيها ما لا يتحمله احد من تكبيل الايدي وربط الشعر وتثبيت الأرجل لتصبح دون قدرة على الدفاع عن نفسها. ظل يستغل الوضع ويستمتع بجمالها الذي اصبح نقمة عليها حتى تمادى وتمادى الذئب البشري المستئذب لتتدخل خالتها
لإنقاذها وتهريبها من بلدتها بليلة مظلمة.
ومن بعد هذا اليوم أصبحت المسكينة تعيش نفس المأساة كل ليلة دون نسيان او تعافي يأتيها بنفس الموعد كشبح يراودها ليظلم دنياها.
انقضى الليل بما يحمله من حزن وألم ليأتي يوم جديد تهربت سيلين من باريش وحسن .لا تكثر الحديث ولا ترفع عينيها باحدهم، نزلت للاسفل لتعطي الدواء لأمينة وتضع الطعام بالمطبخ ثم صعدت بسرعة لمنزلها مختبئة بخجلها مما حدث أمامهم بالأمس.
اشبه وضعها وضع باريش وحسن الذين اتفقا على عدم التحدث بالأمر او الاقتراب منها كي لا يضغطوا عليها.
مرت الساعات والأيام والليالي ليهدأ الوضع وتعود الأمور لطبيعتها، اهتم حسن بسيلين بشكل مختلف عن المنتظر منه حتى اصبحت تتعجب منه وهو يروي لها قصص وعبر من الحياة يوضح لها من خلالها مدى صعوبة الابتلاء وكيفية التعامل والتأقلم مع كل الأقدار وخاصة الثقيلة المؤلمة.
حدثها بلسان أخ عايش بالحياة الكثير والكثير قائلا
"هناك ذكريات كلما تذكرناها تمنينا لو أن لم نكن على قيد الحياة. نتمنى أن نزيلها ونقتصها من شريط ذكرياتنا ولكنها لم تقتص. منها ما ذهبت مع صاحبه بالماضي ومنها الأصعب ببقائها واستمرارها تدفعين ثمنها غاليًا بكل لحظة تتذكرينها. نغلق اعيننا نضغط على فكينا بقوة قائلين يا ليت و يا ليت. ويا ليت كل الأماني بالتمني. فهناك من لا تستطيع تخطيه و الفرار منه بعد أن أصبح محفور بقلوبنا التي أصبحت صخرية مما مر عليها"
رأت سيلين الدموع المتحجرة بعيون حسن وهو يحدثها ويروي لها ثقل ومعارك يجبر الإنسان على خوضها في الحياة.
لمست بوجهه الظلم والألم الذي تعرض له دون معرفة السبب.
وبليلة وضحاها أصبحت سيلين ذو قيمة كبيرة لدى حسن لذلك لم يتوقف عن نصحها بكيفية التغلب على المشاكل والاقدار الثقيلة والبدء من جديد.
كل هذه الأجواء جعلتها تثق و تتعلق بذلك الرجل الغريب دون أن تشعر.
كانت كلما رأته أو سمعت صوته يخفق قلبها وتتسارع أنفاسها توترا وخجلا. لم تصدق شعور خفقان قلبها وفرحتها عند رؤيته بكل صباح حتى ببعض الأوقات تتعمد التأخير بالخروج او إلغاء الموعد كي تنتظر قدومه والاطمئنان عليه دون الإفصاح عن ذلك.
الجميل انه حين يعود بالصباح كان يحمل بيده الحلويات المغلفة كالبسكوت والشيكولاته ويعطيهم لها وهو يناديها بلين، ومن هنا نفهم ونعلم السر وراء تعلقها به، علم حسن بحبها الكبير لابيها وما كان يفعله معها بصغرها حتى اصبح يكرره كي يشعرها بالفرح الذي يراه بعينيها والاطمئنان الذي لمسه بنفسها في اخر فترة.
تعلقت تلك الطفلة المسكينة به وكأنها رأت به والدها سندها وحماها الذي فقدته بصغرها.
باول الامر كانت ترفض مناداتها بلين متمسكة باسمها كي تحتفظ بالحواجز والحدود بينهما ولكنه لم يستمع لها وأصبح يكررها حتى تخالط صوته مع صوت ابيها بأذنها ليشعرها بالفرحة والسعادة التي ترسم وجهها الخجول القرمزي .
ورغم صفاء نية حسن وعدم فعله ما يفعله لأي أطماع شخصية أو حسابات مختلفة. إلا أنه لم يستطع مقاومة سحر وجهها حين تبتسم بخجلها.
فكر كثيراً بينه وبين نفسه كيف يمكن لشخص ان يجرح انسان برئ جميل مسالم محب للخير مثلها، كيف استطاع من فعل هذا بها أن يكسرها دون ان يرحم ضعفها وبراءتها.
تولى مسؤوليتها وعلاجها النفسي كأخت وابنة ببعض الأحيان، تحسنت أمينة نفسيًا حتى أصبحت البسمة لا تفارق وجهها لتعم السعادة المكان يستمتعون بالطعام والروايات الواقعية من رحم المعاناة بجانب استمتاعهم بالقهوة لذيذة المذاق والرائحة.
جميع ما سبق أصبح حجة لتقاربهم وتحدثهم وفرحتهم وتفاهمهم وسعادتهم، لتنبت مشاعر مشتركة بالقلب دون إذن او موعد سابق، يعلوا ليشق الصخور داخلهم معلنا القلب
"لا زلت حيًا انبض"
بات حسن الضيف الجديد بدفتر سيلين تتحدث معه لتخبره بما حدث بينهم وما تحدثت به والأكثر ما تشعر هي به.
وبيوم من تلك الأيام صعدت سيلين لمنزلها ليكون أول ما تفعله فتح دفترها والبدء بالكتابة…
"تمنيت لو لم نفترق اليوم ولم تفصلنا تلك الجدران، تمنيت لو أستيقظ لاجدك بجانبي في كل صباح، تمنيت لو لم أرى وجه غيره طوال العمر، استيقظ على حلم أن نتناول فطورنا ونحن نتبادل أطراف الحديث، أمام المدفئة ينظر لقهوته بوجه مبتسم مغمض العينين ليقول لي كيف تحضرينها بهذا الجمال"
انتبهت سيلين لما كتبته لتتسع اعينها وكأنها كانت غائبة عن وعيها او غارقة بدنيا غير دنياها لم تصدق ما تراه فللمرة الاولى في حياتها تتعلق باحد خارج إطار الاهل.
أرادت أن تمزق الورقة و لكنها وجدت نفسها تغلق الدفتر و تنام بليلة أُجزم أنها كانت خالية من الكوابيس.
أتى يوم جديد مليء بالفرح والسعادة بعد ان وجدت عملاً مناسباً بشركة كبيرة، فيا لغرابة الأقدار تعطيك كل ما تحلم به في اللحظة التي تيأس بها من كل شيء.
كان الالتحاق بالعمل في هذه الشركة من سابع المستحيلات أيا كانت شهادتها وتقديراتها الجيدة فهذه الشركة خاصة لا تأخذ سوى أصحاب الخبرات الكبيرة والدورات المتميزة رفيعة المستوى.
هناك أمر غريب فكيف تم قبولها من اول لقاء ودون أي طلبات إضافية او اختبارات فقط اخبروها ان تأتي بعد شهر حتى يكونوا قد انتهوا من أمر الاحتفالات الخاصة.
أصيبت آسيا بغيرة وامتعاض كبير كادت ان تموت منهم، وفرح باريش وهو لا يصدق تحقيق حلمها بهذا الشكل، كان الجميع عكس حسن الذي أصيب بدهشة كبيرة ظل يفكر في كيفية قبولها على هذا النحو يحدثهم
"لا يمكن حدوث امر كهذا. أي احتفالات خاصة بشركة شاهين كايا. اكيد هناك خطأ ما، لا اريدك ان تفرحي انتظري لحين ذهابك و إمضاء عقد التوظيف وبعدها احتفلي وافرحي براحتك"
قلق من صدمتها وحزنها نظر لباريش مبرر ما قاله "مجموعة شركات شاهين كايا لا يقومون باختيار موظفيهم على هذا النحو. كما انهم يختارون كل سنة موظف او اثنين فقط على الاكثر ويتم الاختيار على أعلى مستوى، يطلبون الخبرات واللغات والدورات التدريبية العالية في مجالاتهم التصنيعية"
نسي حسن نفسه امام آسيا وسيلين متحدثا بطلاقة عالية وكأنه رجل اعمال مخضرم يفهم بهذه الأمور.
حاول باريش ايقافه عن طريق سعاله بصورة متكررة ولكنه لم يتمكن ولم يستطع منع حسن عن إكمال حديثه حول وضع شركة شاهين بيه ومدى فعالياتها داخل وخارج البلاد.
قاطعته آسيا وهي مذهولة فاتحة فمها تنظر باستغراب
"ومن أين لك معرفة كل هذه المعلومات. من يراك يعتقد انك تعمل معهم في إدارة الشركة"
صمتت امام نظرات سيلين و صوتها المعاتب و هي تقول لها "آسيااا".
لتنظر آسيا للجميع قائلة
"اعتذر ولكنه أدهشني كثيراً هذه المرة".
تحرك باريش ووقف لينهي الأمر قائلا
"سأذهب للمنزل كي أأخذ بعض الأوراق قبل رجوعي للعمل"
ونظر لحسن بقوة مكملا
"ستأتي معي كما أخبرتني".
استغرب حسن مما سمع فهما لم يتفقا على شيء، نظر لأعين باريش ليفهم غضبه وخطئه أومأ رأسه وهو يقول
" نعم. تذكرت هناك أمر علي القيام به قبل الذهاب للعمل".
رد باريش وهو يتحرك
"جميل لن اتأخر سآخذ الأوراق ونخرج على السريع"
تحرك حسن ليودع أمينة ويقبل يدها ورأسها وهو يعدها بالرجوع مبكرا صباح الغد.
لم يتوقع باريش ما ينتظره بمنزله حين فتح الباب ودخل متفاجأ بزوجته وابنته بانتظاره.ثبت بمكانه متفاجئ بوجودهم للحظة شعر انه دخل عنوان خطأ لولا ركض ابنته واحتضانها له من أرجله "أبي"
انحنى عليها ليحتضنها بشوق وحب وعيون علقت على من اقتربت وانحنت كي تحتضنه بمشهد غريب عليه
قائلة "اشتقنا إليك..."
سرعان ما ابتعد عنها رافضا تقربها منه ناظرا لها بغضب كبير وكأنه يتساءل
لماذا أنتِ هنا"
نظرت ابيرو لابنتها بوجه مبتسم متحدثة بلطف
"ادخلي أنتِ إلى الغرفة. حتى نأتي انا وأبيكِ بعد قليل"
لبت الطفلة أوامر أمها ودخلت الغرفة فرحة برؤيتها لاغراضها من جديد، تحركت ابيرو واغلقت على ابنتها باب الغرفة وهي تقول "لم نتأخر"
بدأ باريش حديثه المسرع المحمل بالغضب
"ماذا تفعلين هنا؟ لماذا عدتي مجدداً؟"
وتحرك ليغلق باب المنزل بركلة قوية مليئة بالغضب.
ردت عليه بحزنها قائلة
"اخفض صوتك لا يمكننا التحدث بهذه النبرة وخاصة بوجودها"
اجابها باريش بغضب ونبرة مسرعة
"وجود من. هل تخشين سماعها لصوت غضبي؟ اين كان هذا الخوف عندما كنتِ تعلي صوتك و تصرخين بوجهي أمامها، اين كان هذا الخوف حين حملتيها وذهبتِ بعيداً دون النظر خلفك؟ أين هااا أين؟"
تساقطت دموعها وهي تحكي له مدة ندمها مما فعلته وبدأت باستعطاف قلبه وهي تحدثه كم هي حزينة ببعده عنهم.
لم يصغي إليها ولم يهدأ حتى لم يتركها تكمل ندمها وشعورها بقيمته في حياتهم، محملها ذنب ما هم عليه
"أنتِ من فعل هذا بنا عليكِ تحمل نتائج قرارك"
تحرك ليأخذ الأوراق من على طاولة الصالون وتوجه للباب كي يخرج من حيث أتى، اقتربت خطوتين منه متسائلة بقلق "إلى أين ستذهب؟"
استدار رافعا الأوراق بوجهها قائلا
"للمكان الذي تركتني لأجله. سأذهب لعملي الذي أقضي به معظم وقتي رغبة وحبًا في النجاح دون تعب أو ملل. هل تذكرتي إلى أين سأذهب الآن أم تنتظرين توضيح أكثر"
لم ينتظر جوابها هرب من وجهه الغارق بحزنها ودموعها وخرج مغلقًا الباب خلفه بقوة أكثر من التي سبقتها مصطدما بحسن وآسيا وسيلين يقفون أمامه.
ثبتت عينيه على سيلين لثواني تحرك بعدها قائلا "هيا بنا تأخرنا كثيراً اليوم"
تسائلت آسيا فور اختلائها بسيلين
"مع من كان يتحدث؟ أنا لم أراه غاضبًا أو عصبياً لهذا الحد من قبل. هل أحد أقاربه أتى وجلس بمنزله دون رغبة منه"
ردت سيلين باستغراب
"لا أعرف أنا لم أرى أحد من أقاربه او معارفه سوى المعلم حسن"
ردت آسيا قائلة
"رغم ان ذلك الرجل الغريب لم يعد من معارف او اقرباء باريش الا انني ايضا لم ارى سواه منذ انتقالنا للحي"
في أمريكا كان الوضع مختلفا وهادئا لدى هوليا وهي تسعى لتحقيق أحلامها حين شاءت الأقدار أن تعطيها أكثر مما تريد
وصلت سيارتها الفخمة امام منزل والدها لتنزل منها مكملة حديثها الهاتفي
"انتهينا من التحضيرات الأولية وغدا سنكمل. لم استطع البقاء أكثر من ذلك احتاج للنوم بعد يومنا المرهق هذا"
واغلقت الهاتف لتبدأ صعود الدرج والدخول من الباب الذي فتح أمامها بواسطة الخادمة التي اسرعت بأخذ الجاكيت من على اكتافها.
تحدثت دون النظر لها
"سأذهب لغرفتي كي انام لا اريد لاحد ان يزعجني لقد ارهقت الليلة أكثر من اللازم"
صعدت أولى سلالم الدرج ملتفتة نحو غرفة ابنتها متسائلة "منذ متى وهي تبكي"
ردت عليها الخادمة
"لا اتذكر. فكما تعلمين…"
لم تكمل حديثها حتى قاطعتها هوليا
"لا طاقة لدي كي اتحمل عبأها الان سنرى بالصباح ما بها صغيرتنا المتمردة"
واكملت صعود الدرج وهي تقول لنفسها بوجه ابتسم قليلا
"لقد صدقت امي، انها عنيدة مثلي"
رن هاتفها لتفتحه سريعا وهي تقول
"كنت افكر بكِ. اقول لنفسي انكِ محقة فابنتي تشبهني قليلا"
لم تسمعها صافية هانم بسبب المكان المزدحم بالاصحاب والأصوات الصاخبة تحدثت لابنتها
"أنا لا أسمعك جيدا. اتصلت لأخبرك بعدم عودتي للمنزل الليلة سأبقى مع الأصدقاء للصباح"
لم يستطيعا سماع بعضهما أغلقت
صافية المكالمة وارسلت لها رسالة نصية انها لن تعود للمنزل بهذا اليوم
لم يكن بجديد على هوليا رؤية هذه الرسالة فلقد اعتادت على الوضع منذ صغرها. رغم أن أمها أهون بكثير من والدها الذي من النادر تواجده بالمنزل
ابدلت ملابسها وهي بقمة سعادتها بقرب تحقيق حلمها بافتتاح معرضها للفنون كان يعتبر من أكبر المعارض التي أقيمت هذا العام وبالطبع حدث هذا أيضا بمساعدة ابيها ونفوذه ومعارفه
لم تلبث هوليا كثيرا بفراشها حتى نامت فهي حقاً متعبة، فكان التجهيز لمعرض بهذا الحجم على مدار عدة أشهر تقضي يومها كله بالتجهيزات لأجله عملا ليس بسهل.
بغرفة الحجز في قسم الشرطة كان باريش لا زال غاضباً يشرح ليوسف همه قائلا
"لا يحق لها العودة. لا يمكنها فعل كل ما يحلو لها. لن اسمح لها ان تعود وكأن شيء لم يكن. لن اسمح بهذا. لقد رسمت حياتي الجديدة بدونها. هي لم تعد بحياتي من اللحظة التي تركتني وذهبت"
حاول يوسف ان يهدئ منه دون جدوى، ظل باريش غاضبا يردد…
"لا يمكنها الرجوع الآن هي من تركت. هي من عليها دفع ثمن أخطائها"
شغل تفكير سيلين حالة باريش وصوته وغضبه متعجبة من وضع الضيف الذي ظهر فجأة دون معرفة أحد به.
مرت الليلة بما تحمله من عواصف وغضب وعلامات استفهام عند البعض كما مرت بصعوبة على ابيرو بحزن كبير نامت ليلتها وهي محتضنة ابنتها و دموع الندم تتساقط من عينيها، ليس من ضعف فهي شخصية قوية ولكنها كانت تصارع الندم وعزمت على خوض حربها لكسب قلبه من جديد.
بالصباح عاد باريش من عمله وقف أمام باب منزله متردداً بالدخول. ظل ينظر للباب وهو يتذكر صراخها بالسابق وعدم تحملها الحياة تحت ظل مخاطر عمله وتنقلها معه من مدينة لأخرى.
أغمض عينيه وهو يستمع لصوتها بأذنه وهي تقول…
"انتهى كل شيء. انتهى حبي لك. انتهى تعلقي بك. لا اريد العيش معك من بعد الان"
تحرك بحزن مبتعدا عن منزله ليخرج مفتاح منزل أمينة من جيب الجاكيت و اقترب ليرن الجرس أولاً منتظرا قليلاً لربما سيلين بالداخل. ثم فتح و دخل المنزل مغلق الباب خلفه.
كان يبحث بعينه عنها متوقعا وجودها ولكن لم يجدها
نظر بالساعة ثم نظر لأمينة وهي نائمة بفراشها مقتربا من الأريكة الجانبية وهي عبارة عن فراش كبير كان بالقديم اريكة تفتح وتغلق وعند تعطل اعدادات الفتح والاغلاق ظلت على حالتها المزدوجة ليست بفراش ولا باريكة مستقلة بالجلوس فقط.
استخدمتها سيلين بالنوم عليها في الليالي التي تحتاج امينة رعاية اكبر وتم استخدامها من قبل حسن مؤخرا والآن جاء دور باريش
(يعنى فيكم تقولوا زي جامعة دول عربية 😂)
نام باريش على الأريكة ليرتاح من عبء السهر طوال الليل بعمله.
لم يمر وقت كبير حتى فتحت سيلين الباب ودخلت لتعطي أمينة الدواء قبل خروجها ولكنها تفاجأت بوضعه على الاريكة بغير العادة.
تحركت بهدوء لتعطي أمينة دوائها دون إحداث صوت. تاركة خلفها ملاحظة صغيرة وضعتها بالطاولة الصغيرة القريبة من فراش أمينة محتواها..
"أعطيت لها الدواء قبل خروجي لن اتأخر بعودتي"
مرت ساعات قليلة ليستيقظ باريش من نومه على صوت قوي بجانبه. رفع ظهره قليلا ليرى ماذا حدث؟ ليجد حسن أمامه يبتسم له قائلا
"تعلم انا لستُ جيدا بهذا العمل. ولذلك لا تطلب مني ان اكون حذراً..." وانحنى لينزل اسفل الطاولة.
استقام باريش وجلس على الاريكة وهو يحرك يده على وجهه قائلا
"ظننت ان الحرب قامت ما هذا ياصديق. ما هذه الأصوات"
رد عليه حسن من اسفل الطاولة وهو يجمع كسر الأطباق والمعالق التي سقطت منه قائلا
"يكفيك نوما. عليك مساعدتي"
ضحك باريش و وقف قائلا
"حسنا ضع ما بيدك في المطبخ وانا سأكمل، ولكني غير مسؤول عن أواني المطبخ سأحضر الطعام فقط وانت عليك تنظيف ما يخلف من ورائي" قالها وتحرك ليدخل الحمام
ليذهب حسن بعدها للمطبخ وأمسك بيده القطع المتبقية من الأطباق قائلا
"وكأنهم ينتظرون السقوط حتى ينكسروا"
ضحك مكملا
"كان عليكم أن ترأفوا بحالتي. ماذا سأبرر لها عند عودتها"
وضع حسن ما بيده بسلة المهملات بعد أن تحدث لها شاكياً حالته.
وبحركة تلقائية حرك رأسه لينظر نحو حوض الغسيل ليتفاجأ بهول ما فوقه وكأن الاواني كلها خرجت من مكانها فجأة.
دخل باريش للمطبخ لينصدم هو أيضا بالوضع نظر لحسن قائلا
"ماذا حدث هنا. كيف فعلت كل هذا"
ابتسم حسن برده
"لا أعرف من أين أتوا وانا ايضا تفاجأت"
(وربنا حسن يمثلني 🤣🤣المطبخ بيموت فيا بينتظر دخولي عشان يطلع يرقص معايا😂يا تقل دم مامته🤣 عدوها مامته ههههههه)
وبعد انتهاء الفطور وتعاون حسن و باريش بترتيب المطبخ جلسا سوياً يتحدثان عن الوضع الجديد بعودة زوجته وابنته الصغيرة.
حاول حسن إقناعه بإعادة التجربة واعطائها فرصة جديدة ولكنه كان رافضاً غاضباً بشدة
طُرق باب المنزل تحرك باريش ليفتحه متوقعاً انها سيلين قد عادت باكرا كما كتبت لهم. نظر إذ بها آسيا جاءت لتطمئن على الوسط وتتحرى عما حدث بالأمس.
فرحت عيونها بمجرد رؤيتها لباريش لتتحدث له بحماسها و فرحتها الكبيرة في نفس اللحظة فُتح الباب المقابل فجأة لتظهر زوجته امامه.
استدارت آسيا لتنظر خلفها منصدمة بحسن جمال ابيرو ووقوفها بكل ثقة أمامهم. لم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة التي صُدمت بها آسيا. بل المفاجأة الاكبر حين خرجت زهرة من خلف أمها راكضة بفرح اتجاه ابيها لتحتضنه من ارجله وهي تقول "ابي"
كان المشهد صامتا لا أحد يتحدث العيون فقط هي من تراقب انحنى باريش وحمل ابنته لحضنه وقبلها بحب "حبيبتي"
تحدثت آسيا بعد صمت طال قليلا قائلة
"لم أكن أعلم أنك متزوج. ولديك ابنة"
لينظر باريش مرة اخرى نحو زوجته قائلا "لم تأتي فرصة لهذا. إن سألتِ كنت أخبرتكِ"
كانت صدمة اسيا ومفاجأتها بزوجته كبيرة لدرجة انها تحركت لتعود لمنزلها دون رد او حتى الاستئذان منهم فقط تحركت وذهبت مسرعة مصدومة.
تحدثت زهرة لأبيها متسائلة
"لماذا لم تأتي إلينا فور مجيئك"
قبلها والدها من خدها وبدأ يتحرك نحو منزله وهو يقول
"ها أنا قد جئت"
اقترب باريش من منزله لتتحرك ايبرو خطوات للخلف كي يدخل هو ثم عادت وأغلقت الباب خلفه.
وبعد دقائق أُغلق باب أمينة بواسطة حسن بهدوء وتخفي وهو يقول لنفسه
"علينا الحذر أكثر من قبل" ودخل ليجلس بجانب امه.
وكالمعتاد على طقس اسطنبول المتغير تساقطت الأمطار وهبت الرياح العاصفة دون موعد سابق.
قلق حسن على سيلين وبدأ يترقب وصولها من نافذة المطبخ وهو يقول
"اتمنى ان لا تتأخر بهذا الطقس"
لم يكمل حديثه مع نفسه حتى وجدها تأتي من بعيد، تقترب بسيرها من البنايات المجاورة كي تحتمي بها من شدة الرياح. عبرت الشارع واقتربت أكثر من البناية مسرعة بالدخول
ليسرع حسن ويفتح لها باب المنزل قائلا "ادخلي بسرعة"
دخلت بالفعل وهي تقول له
"لقد تغير حاله فجأة"
ليرد عليها حسن بتلقائية قائلا
"ألم تتفقدي حالة الطقس على هاتفك قبل خروجك"
نظرت له باستغراب فهو بالكاد يحمل هاتف قديم بازرار.
تحرك نحو الغرفة ليدخل بها وهو يحدثها
"احكي لي كيف مرت مقابلة العمل اليوم"
ظلت بمكانها واقفة تنظر لملابسها المبللة وهي تقول
"ما زال هناك وقت على موعد ادوية السيدة امينة. سأصعد انا كي ابدل ملابسي وارتاح قليلا ثم اعود على الموعد لأعطيها دوائها"
اجابها بعيون راجية
"حسنا. ولكن لا تتأخري بدلي ملابسك وارتاحي هنا معنا. لقد سئمت الجلوس بمفردي"
صدمت من تلقائيته وجرَأته اخفضت عينيها من شدة خجلها وتحركت لتخرج دون جواب
وخرجت مسرعة من المنزل وأغلقت الباب خلفها دون حركة ظلت واقفة تتذكر كلمته بوجه تبسم من فرحته
بطلبه
صعدت سريعاً الدرج ودخلت منزلها وهي تحمل بقلبها هذه السعادة. بدلت ملابسها الواسعة ورفعت حجابها من على رأسها لتحرر شعرها المخبئ دائما أسفل ملابسها شاكرة الله انه لم يتبلل كله فقط اعلى رأسها أتت بمنشفة صغيرة وبدأت تجففه وهي تتذكر والدها الحنون وهو يجففه لها.
ابتسمت ابتسامة يملأها الحنين. تذكرت خوف حسن عليها وهي تتذكر خوف ابيها الذي كان يحتضن مدللته ويهرول بها مسرعاً على الطريق كي لا تتبلل من المطر قائلا لها "علينا أن نحافظ على هذا الشعر الجميل لكي لا يتبلل ونجهد بتجفيفه"
كان يخشى عليها من الأمطار و تقلب أحوال الطقس لانها قليلة الجسد. ضعيفة المناعة وتمرض بسرعة .
حضرت ابيرو الطعام المحبب لدى باريش الذي اعترض كثيرا بمشاركتها الطعام كي لا يعطيها أملا بالصلح.
لم يكن الأمر اختياري لديه حين أجبرته ابنته زهرة على تناوله معهم.
فهي حبيبة والدها و الاقرب لقلبه، عادة ما تكون الفتاة الأقرب لأبيها من امها يحن عليها ويحتضنها عكس الشاب يكون هو الأقرب للأم ليست قاعدة ولكنه الشائع بمجتمعنا.
رغم عدم رغبتها في النزول للأسفل إلا أنها مجبرة على ذلك كي تعطي لامينة دواء خاص يأخذ مرة كل اسبوع يحقن تحت الجلد تعلمته سيلين خصيصاً من اجل ان تعطيه للسيدة أمينة
تحركت وارتدت ملابسها ثم وقفت بجانب باب منزلها قبل خروجها تمحو البسمة التي رُسمت على ملامح وجهها ولم تستطيع التخلص منها.
تحمست وتسارعت دقات قلبها لاقتراب موعد اللقاء.
اخذت نفسًا عميقًا واخرجته بهدوء وهي تقول لنفسها
"سأفعلها وأعود سريعا. اعطيها الدواء واستأذن لاصعد دون كلام" ...
فتحت الباب وخرجت وهي تبتسم مرة اخرى فأصبحت تبتسم كلما تذكرته وهو يقول
"لا تتأخري علي"
لم تصل سيلين لباب منزل امينة حتى وجدت حسن يفتح الباب قائلا فور رؤيته لها
"كنت ذاهبًا اليكِ لماذا تأخرتِ. حان موعد الدواء ولم تأتِ "
دخلت بخجل مخفضة نظرها متحدثة بصوت ضعيف "لقد جئت"
توجهت نحو ادوية امينة كي تبدأ بتجهيز الحقن. اغلق حسن الباب ودخل خلفها وهو ينظر لها قائلا
"هل نمتِ؟"
شعر بزيادة في سؤاله ليبرر قوله ..
"سألت لأنكِ تأخرتِ"
هزت سيلين رأسها بخجل شديد وهي تجيبه "نعم نمت قليلا"
ضحك حسن برده
"وهل يحتاج الإفصاح عن النوم كل هذا الخجل"
ارتبكت اكثر لدرجة كانت ستُسقط الدواء من يدها. اقترب حسن منها متسائلا
"ما بكِ؟"
تحركت مبتعدة عنه مقتربة من أمينة لتبدأ بحقنها. لاحظ حسن ارتباكها لذلك تراجع و جلس على الاريكة كي تكون على راحتها
انتهت سيلين من حقن أمينة ثم تحركت بسرعة كي تخرج من الغرفة دون كلام
حدثها سريعا
"هل تناولت طعامك؟"
وقفت سيلين لترد دون النظر له
"لا اشتهي الان"
اسرع بحديثه
"انتظرتكِ لنتناوله سوياً. ان لم ترغبي.. اقصد كوني على راحتك لا اضغط عليكِ.."
اكملت سيرها للخروج من المنزل بقلب يريد البقاء فهي بحيرة من أمرها تريد البقاء والهروب بنفس الوقت.
هو ايضا يريد بقائها لذلك أسرع بسؤالها
"ماذا فعلتِ اليوم. هل توفقتي بأمر العمل"
ردت على استحياء وعيون مخفضة
"للاسف كالعادة ينظرون للملف ثم يقولون سنتواصل معك، والبعض يصرح بأنهم ليسوا بحاجة لموظفين"
رد عليها بحزن كبير
"من الجيد انكِ اصبحتِ لا تتأملي بوجودهم. لم اكن اعلم ان البحث عن العمل بهذه الصعوبة. فكرت بشيء لعله ينجح معنا، أرى انكِ تركزين على الشركات الخاصة والكبيرة أقول لنفسي ماذا إن ركزنا على الشركات الصغيرة التي تتلقى دعما من الحكومة والشركات الكبيرة التابعة للدولة فهؤلاء مجبرين على تعيين مجموعة من الشباب كل فترة كي يستمر الدعم لهم"
و باستغراب ردت عليه
"ومن أين سنعرف هذه الشركات"
ابتسم وهو يجيبها
"الامر بسيط احتاج لكوب قهوة بجانب حاسوب كي نحضر اسمائهم وعناوينهم. هل لديكِ حاسوب؟"
ردت بحماس
"نعم لدي. سأصعد لأجلبه"
لم تتعدى عدة دقائق حتى عادت سيلين وبيدها الحاسوب فتح حسن الطاولة وقرب اليها مقعد ليجلس عليه وهو يستمع لقولها
"سأنهي تحضير القهوة وأتي" قالتها وذهبت للمطبخ
رن جرس الباب تحرك حسن متحدثا إليها
"أنا سأفتح من المؤكد أنه باريش"
فتح ليجدها آسيا تحدثه بوجه حزين
"اريد ان اتحدث مع سيلين هل هي موجوده ام بالاعلى"
رد حسن عليها
"هي بالداخل تفضلي ستجدينها بالمطبخ" وأشار حسن لها اتجاه المطبخ
دخلت ببطء ليستغرب حسن من حالتها. عاد مرة أخرى للغرفة ليفتح الحاسوب ويجلس أمامه للبدأ باستخدامه.
اخبرت آسيا صديقتها ما رأت بمنزل باريش واكتشافها أمر زوجته وابنته.
تفاجأت سيلين عدم معرفتها بأمر كهذا فهو لم يحدثهم عن عائلته من قبل.
تحدثت اسيا بحزن
"خدعنا كل هذا الوقت واخفى عنا ذلك"
راجعتها سيلين بما تقول
"ليس مجبرا ان يحكي لنا عن حياته الشخصية. إن قرر ان يصمت دون اخبارنا بهذا فهو حر لا يحق لنا ان نراجعه أو نحزن منه بالأخير هذه حياته وهو حر بها. كما لا تنسي انه ضابط شرطة ومن المحتمل أنه يفعل ذلك لحماية عائلته"
سكبت القهوة بالفناجين وامسكت الصينية لتضعهم داخلها ومن ثم تحملها لتخرج من المطبخ وهي تقول بصوت منخفض
"اهدئي من يراكِ يقول انه وعدكِ بشيء واخلى بكِ"
خرجت آسيا من خلفها وهي تخفض صوتها قائلة
"انتِ لا تفهميني. لقد انصدمت بالأمر كنت اظن انه..." صمتت بمجرد وصولها لغرفة أمينة
اقتربت سيلين من الطاولة لتضع القهوة بجانب حسن الذي كان مندمجاً بالحاسوب وكأنه شخص محترف بهذا الأمر.
نظرت آسيا نحوه نظرات غريبة فبرغم حزنها الشديد إلا أنها لاحظت كتابة حسن السريعة على الحاسوب وايضا ادخاله لأسماء الشركات و حفظه لعناوين البريد الإلكتروني الخاصة بالشركات.
ادهشهم أكثر حين بدأ حديثه لسيلين قائلا
"ها قد وجدتها هذه الشركة تناسب مجال تخصصك انظري اليها" امسك القلم والورقة وبدأ يكتب لها أسماء وعناوين الشركات التي حددها بكل طلاقة.
راقبوا خط يده وطريقة كتابته السريعة ونظراته باستعماله الحاسوب وهم لا يصدقون ما يرونه أمامهم حتى تحريكه للقلم بين اصابعه مختلفة.
تحدثت آسيا وهي تنظر له قائلة
"حتى انا لم استخدمه بهذه الطلاقة. من أين تعلمت كل ذلك من يراك يقول انك شخص متخصص بهذا المجال"
ثم نظرت لملابسه ومظهره المعاكس لوضع جلسته وموضع يده على الحاسوب قائلة
"للحظة كنت سأظن أنك رجل أعمال ذو شأن كبير. ما هذه الوضعية والكتابة السريعة"
واقتربت برأسها قليلا لتنظر لخط يده على الورقة مكملة
"ام الخط فلا اعتقد انه موهبة طبيعية اكيد تعلمت كل هذا بمكان ما".
نسي حسن نفسه أمامهم. فكيف لرجل لم يكمل تعليمه كما اخبرهم سابقا أن يفعل جميع ما فعله بهذه الطلاقة.
تحركت اسيا لتخرج من الغرفة بل من المنزل دون أن تنتظر إجابة من حسن قائلة
" سأذهب لأرى امي كي لا تقلق عليّ"
وبعد ذهابها تحدثت سيلين
"حقاً أنت ماهر بهذا المجال. هل تعلمت بمفردك أم أن" وصمتت
نظر حسن نحو أمه أمينة ليتذكر تشجيعها الدائم له وضرورة تعلم كل شيء بمهارة عالية كي لا يعتمد على منصب او مال يمكنه الزوال بأي لحظة.
كانت دوماً تخبره ان شهادته وثقافته ومهارته هي التي ستجعل منه رجلا قويا يقف أمام تقلبات الزمان. لا يستطيع أحد أن يهزم رجال العلم بالمال. ولكن يمكن بسهولة هزيمة رجال الثروات بالعلم. فلا فائدة للمال دون علم وحكمة. عكس الفوائد التي يجنيها صاحب العلم دون المال"
ابتسمت امه بتبادلها النظر له وهي تستمع لأول كلماته
"لقد علمتني ما لم يستطيع المال والجاه تعليمه لأحد"
وبدأ يتحدث مع سيلين موجه نظره اليها بقلب صادق قائلا
" كما قلتِ أنتِ لآسيا من قبل. ليس كل الأمور كما نراها من الخارج. لا احد يعلم ما تحمل الآخرين من أعباء كثيرة فُرضت عليهم رغما عنهم. اعلم حتى انتِ تستغربين وضعي وهناك علامات استفهام كثيرة تدور بعقلك. ولكنكِ بقلبكِ الكبير لم تستجوبيني. حتى انكِ اهتممتِ بي ورحبتِ بي دون تطفل. رأيت نبل اخلاقك وطيبة وصفاء قلبك بالجبر الذي تمارسيه علي أنا وأمي. ولكنِ اقسم لكِ انني لستُ سيئا. حتى أقسم لكِ أنني لم أمسك بسوء. انا فقط فرض عليّ أن أعيش حياة صعبة مليئة بالمؤامرات والخداع. وثقت بأشخاص كان علي أن لا أثق بهم وابتعدت عنهم. كنت اعمى البصيرة حينها. تأمروا عليّ وخسفوا بي حتى وصل بي الحال لما هو امامك الان"
امتلأت عيون حسن بالدموع لصدق ما يخرج منه فهو لأول مرة يتحدث بهذه الشفافية أمام شخص غريب عليه.
فلولا ارتقاء شأن وقدر سيلين لديه ما كان تحدث أو أخرج ما ثقلت نفسه به.
لم يتعدى بضعة شهور على أول لقاء بينهم الا انه يشعر وكأنه يعرفها منذ سنوات. ليس هذا وحسب بل وكان يشعر بالمسؤولية الكبيرة اتجاهها يخاف عليها و يهتم بها وكأنه والدها او أخوها الاكبر.
حاول ان يشرح لها وضعه وانه تعرض لمؤامرات و ظلم وأبر بالعيش تحت وطء هذا العبء بشكل غير واضح. لا يستطيع أن يصارحها لوضعه الحساس وان أراد قلبه ذلك.
تأثرت سيلين بحديثه حتى امتلأت عيونها بالدموع شفقة على حالته و صوته المختنق الذي يمنع دموعه بصعوبة كي لا تتساقط منه.
وجهه المحتقن بالألم والحزن البادي عليه اثروا بها لدرجة أنها فاجأته بحديثها عن ما يحمله قلبها من ثقل قائلة
"لكل انسان نقطة ضعف. نقطة سوداء. يهرب منها لا يريد تذكرها كي يعيش بسلام. يتمنى ان ينجح بالنسيان ولكنه لا يستطيع ترك احزانه خلفه والاستمرار بحياته سالمًا"
تساقطت دموعها امامه ولأول مرة وهي تقول
"اريد الهروب من الماضي كي اكمل حياتي كإنسانة طبيعية، ببعض الأوقات انجح بهذا ولكن ولكن…"
اختنقت سيلين ببكائها ولم تستطع تكملة حديثها، تدخل حسن ليهدئها بعيونه الممتلئة بالدموع على حالتها
حدثها "هدئي من نفسك لا تتحدثي لنكمل حديثنا مرة اخرى"
كان يعلم مدى جرحها وظلمها لذلك لم يرد كسرها امامه
عادت سيلين للتحدث مرة أخرى وكأنها أرادت أن تُخرج ما في قلبها لترتاح من عبئها قائلة
"اخاف كثيراً من حلول الليل. اخاف من الوحدة. تجتمع امامي مخاوفي من الماضي. وقتها فقط اعلم انني لا استطيع الشفاء من هذا الألم. فباللحظة التي…"
صمتت سيلين من شدة تهاطل دموعها و ارتجاف جسدها.
اقترب منها بحذر ليعطيها كأس الماء وهو يترجاها ان لا تكمل، ولكنها على غير عادتها نظرت وهي تبكي لعينيه قائلة
"اظل ابكي طيلة الليل انادي على ابي كي يأتي و يخلصني من هذا الهم دون ان......"
وبمجرد ذكرها لوالدها وضعت رأسها على ذراعها المستندة على الطاولة لتخبئها داخلهم وهي تقول بصوت ارتفع ببكائه قليلا
"لم يأتي بأي ليلة كي ينقذني. تركني وحيدة. لماذا تركني له. لماذا تركني وحيدة وذهب"
بدأت تصدم أرجلها بالأرض وهي تبكي حزنا وقهرا على أبيها. لتنهار تماماً امامه لم يتخيل ان يراها بهذه الحالة ابداً كان يقف خلفها بل فوق رأسها المستندة على الطاولة وهو لا يعرف ما عليه فعله. يخاف أن يقترب منها فتزداد سوءاً
واي سوء أكثر مما هي فيه. فلقد نجح الحيوان الدنيء المستذئب أن يتوارى بصورة إنسان يظلم نور دنياها.
نجح بتحطيم وقطف وردة جميلة كل حلمها أن يكون لها مستقبل مشرق لتحقيق حلم أبيها بها.
شد يوسف بيرقدار على قبضة يده وهو يكز على أسنانه بقوة غضبه قائلا داخله
"سأحاسبهم جميعًا أقسم أنني سأحاسب، أقسم لكِ أنني ساحاسب من فعل بكِ ذلك لن ارحم احداً منهم سأجعلهم يبكون ندماً على ما نعيشه..."
ظلت تبكي بصوت آآآهاتها منادية على والدها بقهر يهز القلوب الصخرية
تدب بأقدامها أرضا لترجها رجاً من حزنها وألمها. بل لترج قلوب تنظر لها بحزن وأسى
لم يصدق يوسف ما يراه أمامه جلس على المقعد المجاور لها وعيونه تبكي على ظلمها وحالتها التي تتقطع لها القلوب
لم تتخيل سيلين انها ستنهار امام احد بهذا الشكل، توقعت ان تتحدث بقوة وبشكل غير واضح عن همها كما فعل هو، ولكن مع الأسف هناك أشياء لا يمكنك مجابهتها وخاصة في مثل هذه القضايا التي تتمزق لها قلوب البشرية.
يا ترى ما هي ردة فعل سيلين بعد أن فضحت امام يوسف بيرقدار المتنكر بشخصية حسن؟
بماذا ستبرر بكائها وصراخها ومناداتها على أبيها كي ينقذها ممن ظلمها؟
انتظرونا لتعلموا الإجابة بالحلقة المقبلة وليلة جديدة من الليالي المظلمة
يتبع ..
إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.