رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
بقلم سميحة رجب
أشارت الجدة بيد مرتجفة نحو الخزانة القريبة وكأنها تخبر قمر بأن علاجها هناك. فأسرعت نحو الخزانة فتحتها لتجد مجموعة من الأعشاب الغريبة التي اعتادت مثال استخدامها. هى نفسها الأعشاب الموجودة بالصندوق الموجود بالغرفة.
لم تترك المجال لنفسها لتفكر كثيرا هرعت إلى المطبخ لتحضر بسرعة، وسرعان ما عادت وساعدت مثال في شربها.
لاحظت تحسنًا طفيفًا في حالة ميثال بعد تناول الأعشاب ومع ذلك لا تزال قمر قلقة فهذه الأعشاب الغريبة ليست كافية وغير منطقي بالنسبة لها كطبيبة ان تقوم اى اعشاب في منع تكون جلطة.
أصرت بينها وبين نفسها حاجة ميثال إلى الفحوصات الطبية اللازمة. فكرت للحظة قبل أن تتخذ القرار ثم حملت الهاتف كي تتصل بيونس، ترددت قليلا ولكن خوفها على صحة ميثال جعلها تتغلب على ترددها.
اتصلت به وأخبرته بما حدث مع جدته ، لم يكن هناك مجال للتفكير تملكه الذعر وامتلأ عقله بصور متلاحقة لوجه جدته وهي تعاني ألمها، شعر يونس بخوف عارم يتغلغل في كل خلية من جسده.
أمسك مفاتيح السيارة بأيدٍ مرتجفة وخرج مسرعًا من البيت، كانت كل دقيقة تمضي تقربه من فقدان شيء لا يحتمل خسارته.
قاد سيارته بسرعة جنونية جهة القصر عيناه مثبتتان على الطريق، عقله مشغولًا خوفًا بما قد يواجهه عند وصوله. ارتسمت في ذهنه صورة جدته التي رافقته منذ طفولته والتي لطالما كانت ملاذه الآمن وسنده.
فكرة أن يصيبها شيء سيء كادت ان تخنقه. يشعر كما لو أن الوقت قد توقف أو أن المسافة بينه وبين القصر تتسع كلما اقترب أكثر.
وصل يونس إلى القصر وهو بالكاد يتنفس، أوقف سيارته بطريقة عشوائية دون أن يهتم بأي شيء سوى أن يصل إليها.
استقبلته قمر عند الباب وهي تحاول تهدئته قبل أن يفزع أكثر ويفزع جدته التى غطت في نوم عميق بعد شربها للأعشاب .
ورغم ترددها تحدثت بابتسامة مطمئنة اعتادت على التحلي بها بعد خروجها من غرفة العمليات:
"جدتك بخير لا تقلق. فقط تحتاج أن نأخذها للفحص للاطمئنان."
رد وهو يلهث وعيناه تملأهما القلق:
" كيف بخير! ما الذي حدث؟ هل هي حقًا بخير؟"
حاولت الحفاظ على هدوئها:
"نعم، هي بخير الآن، لكن هنا بعض الأعراض التي جعلتنى أشعر بالقلق. أعتقد أن الأفضل أن تأخذها للمستشفى للاطمئنان لا أكثر"
قاطعها بنبرة أكثر توترًا:
"أعراض!
أي أعراض؟"
أردفت محاولة إخفاء القلق الذي يخالجها:
"لم تكن أعراض خطيرة. صدقني. فقط شعرت ببعض الإرهاق. أظن أنه سيكون من الأفضل أن يفحصها الطبيب حتى نضمن عدم تكرار تلك النوبة"
تنفس يونس بعمق محاولا استجماع نفسه قبل أن يصعد ليطمئن على جدته بنفسه، صعد الدرج بخطوات متسارعة تحارب الزمن، كل خطوة تزيد من توتره. رغم محاولة قمر طمئنته لكن فكرة تأخره للحظة واحدة تملؤه بالخوف الشديد.
وعندما اقترب من الغرفة أحس برعشة خفيفة تسري في جسده. ارتجفت يديه وهو يفتح الباب. كأن جزءًا منه يخشى ما قد يجده في الداخل ، أدار رأسه سريعًا ليتفقد الغرفة فور أن دخل و لكنه لم يجد جدته.
توقف للحظة ناظرا بثبات عقله الذي لم يستوعب ما رآه، تحولت دهشته إلى خوف مبهم ومقلق حين استدار نحو قمر و عيناه مليئتان بالقلق والارتباك مردفًا بصوت مخنوق:
"أين هي؟ أين ذهبت؟"
وقبل أن ترد قمر عليه سمعا صوت انغلاق أحد الأبواب بقوة تبعتها هزة خفيفة رجت أرجاء القصر، انتفضت قمر شاهقة وارتسمت على وجهها نظرة خوف عابرة.
اتسعت عيناه بذعر سألها به :
"هل سمعتِ ما سمعته؟ الباب! "
قالها ركضًا نحو الباب الأمامي للقصر دون أن ينتظر ردها ، فتحه بقوة ناظرًا حوله يتفحص كل زاوية في المكان، لكن لا يوجد لها أي أثر. أسرع نحو الحديقة تحديدًا نحو شجرة جدته التي تقضي وقت فراغها تحت ظلالها تقرأ كتبها القديمة. وصل متوقف بجانبها محدثًا نفسه:
"ليست هنا أيضا "
اخذ يبحث بعينيه حول الشجرة تارة و نحو القصر تارة أخرى يتفقد نوافذه يحاول إيجاد أي أثر على وجودها.
اغمض عينيه بقوة كما لو أنه يحاول استشعار وجودها في المكان " فكر يا يونس. إلى أين ذهبت "
أتته قمر مسرعة قائلة بنبرة قلقة:
"ليست بالداخل. بحثت عنها في أرجاء القصر. كيف ومتى خرجت؟. لم اتركها سوى لحظات. لا يمكن أن تكون خرجت وحدها بهذه الحالة حين تركتها نائمة مرهقة جدًا، كيف نهضت فجأة وتذهب دون أن تطلب المساعدة؟"
ما زالت عيناه تجولان في المكان يبحث عنه بقلبه مردفًا بصوت بصوت هادئ رغم توتره:
"لا أعرف لا أفهم. لكن لا يمكن أن تكون قد ذهبت بعيدًا. لذا سأخرج للبحث عنها في الشوارع القريبة"
ظلت مكانها تناظر أثر ذهابه. أنفاسها مضطربة نتيجة قلقها. تعصر عقلها تحاول استذكار أحاديث ميثال لعلها تدرك مكانها، وفجأة تذكرت الغرفة التى طلبت منها عدم دخولها.
فُتحت عينيها اكثر وهي تتذكر غرابة تلك الغرفة ومحتوياتها فهتفت بنبرة خافتة
"الغرفة"
تقدمت بخطوات مترددة نحو الداخل كلما اقتربت من الغرفة شعرت ان المكان يبدو أكثر هدوءًا من المعتاد و كأن الجدران تراقب تحركاتها.
تذكرت كيف دخلت الغرفة بالمرة القادمة فينبض قلبها بسرعة، رغم أن الغرفة تثير الريبة في نفسها الصعود نحوها أشبه بمحاولة الهروب من ظل يلاحقها.
قلبها لا يزال يتسارع والخوف يتسلل إلى أعماقها. توقفت حين وصلت أمام باب الغرفة لوهلة تتأمل المقبض القديم .
تتوقع حدوث شيئًا غير طبيعي لحظة فتحها لذاك الباب مدّت يدها ببطء تلامس معدن المقبض البارد .
ترددت و اشتعل الخوف بداخلها وهنا تذكرت ميثال وتعبها قبل أن تختفي، تذكرت الإرهاق الذي رأته على وجهها والقلق الذي بدأ يتحول إلى خطر حقيقي.
نظرت ليديها المرتعشتين وهي تشبك اصابعها ببعضها ، أخذت تتنفس بعمق هامسة لنفسها:
"لا وقت للخوف. يجب أن أفتح هذا الباب لربما أجدها أو اعثر على شئ يدل على مكان وجودها"
بحركة سريعة تشجعت ممسكة بمقبض الباب تريد إدارته لكنه لا يتحرك!
شدت قبضتها عليه وأخذت تدفع بكل قوتها، ولكن لا جدوى! فالمقبض كالصخرة ثابت لا يميل. حاولت مجددًاا مرة . مرتين. وثالثة ورابعة حتى شعرت بالألم يسري في ذراعها.
بذلت كل قوتها لتفتحه ولكنه مغلق بإحكام غريب وكأنه يرفض السماح لها بالدخول!
تراجعت للوراء تستجمع شتات أفكارها مردفة بيقين: "شيئًا ما خلف هذا الباب. يجب أن افهم سر هذه الغرفة"
تحولت حيرتها تدريجيًا إلى فضول مميت. فقررت في لحظة جريئة أن تنظر من فتحة المفتاح.
اقتربت مرة أخرى بتردد لتنحنى ببطء مقربة عينها من الفتحة .
ما رأته أو بالأحرى ما لم تراه زاد الأمر غموضًا. ظلام حالك كأنها تنظر إلى الفراغ. لا أثر لأي حركة و لا صوت يصدر منها و لا أثر للحياة.
رددت بصوت خافت:
"لا شيء. فقط ظلام ليست عتمة بل فراغ!"
ابتعدت ببطء متراجعة للوراء وهي تشير نحو الباب مردفة: " الصوت الذي سمعناه. صوت هذا الباب، وليس باب المنزل الأمامي أى أن ميثال لم تخرج من القصر".
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، شعور بالحيرة والفضول تخطي الخوف. وقفت جامدة تناظر الباب بأعين كادت تخرج من محجرها تفكر فيما خلف هذا الباب.
بدأت الأفكار تتسارع بذهنها تعصف بفكرها حتى لمعت لها فكرة حين هتفت:
"النافذة. النافذة التي رأيتها في الغرفة. سأنادي على ميثال وإن كانت هناك ستسمعني".
اندفعت بسرعة نحو الباب الخلفي المؤدي إلى الحديقة. بحثت عن المكان الذي ينبغي أن تكون فيه النافذة بالضبط.
اتجهت نحو الجهة التي تذكرت أن النافذة تطل عليها، لفح الهواء البارد وجهها وهي تقف على العشب المبتل. تتفحص الجدار الخلفي للقصر تبحث بيأس عن تلك النافذة.
دارت حول القصر مرات ومرات و نافذة الغرفة ليست موجودة!
مر الوقت وانقضت الساعات ولا تزال تبحث. تعب جسدها تعب لا يشبه التعب الجسدي العادي مزيج من القلق والإرهاق الذهني. توقفت للحظة تلتقط أنفاسها شيء ما بدا خطأً.
أردفت بنبرة مشوبة بالشك:
"كيف يمكن ألا أجد الغرفة؟ لقد كنت هناك. ورأيت النافذة!"
تتذكر بوضوح شكل النافذة و الضوء الذي كان يتسلل منها. حاولت إعادة تركيب الصورة في ذهنها. ترفع بصرها مرة أخرى ولا ترى أي نافذة. الجدار فارغ بارد، وكأنها لم تكن موجودة أبدًا تجول بنظرها يمينًا ويسارًا تبحث عن أي دليل لكن الجدار خالي تمامًا.
رددت بصوت مرتجف
: "هذا مستحيل. مستحيل النافذة كانت هناك. رأيت الضوء يتسلل من خلالها في وضح النهار!"
تراجعت بضع خطوات محاولة تهدئة نفسها والتفكير بوضوح، استدارت تنظر حولها مرة أخرى. تتفحص المكان فهو لا يشبه الذي كانت تراه من النافذة.
أصبح مختلف تمامًا الأشجار هنا ليست كما كانت في الصورة التي رأتها، والمكان يبدو أكثر ضيقًا من المنظر الذي رأته من الغرفة.
اقتربت من ذاك الجدار البارد مرة أخرى تلمسه بيدها المرتجفة. تحاول أن تشعر بشيء ما خلفه و لكنها لا تشعر سوى بالحيرة المتزايدة. فكرت للحظة:
"هل كانت النافذة حقيقية؟ أم كانت مجرد وهم او لوحة؟"
اسرعت تجيب ناكرة:
"لا. كانت حقيقية. كانت حقيقية"
اغمضت عينيها تفكر محاولة استجماع أفكارها واستيعاب ذاك الغموض. امتعضت ملامحها فجأة مردفة بدهشة:
"أين الحارس!
كيف اختفى قبل وصول يونس!
وأين اختفى. وأين ذهبت ميثال! "
تراجعت للوراء تنظر للجدار وكأنها تبصره لأول مرة. تحاول استيعاب ما يحدث. إنه كابوس، أو ربما شيء أكبر. كسر غامض!
___
في تلك اللحظة دخل يونس منزله بملامح يكسوها القلق والارتباك، يتصبب العرق من جبينه، وخطواته المرتبكة تعلو في الممر. نادى بصوت مرتفع:
"أمي! أمي!"
خرجت والدته مسرعة على أثر ندائه المخيف والقلق واضح في عينيها.
اقتربت منه متسائلة بصوت مضطرب:
"ماذا حدث يا يونس؟ لماذا تصرخ هكذا؟"
حاول يونس التقاط أنفاسه بصعوبة، وعيناه تفحصان وجه والدته بارتباك، قبل أن يرد:
"أين ذهبت خالتي؟"
نظرت إليه بتعجب مجيبة بتلقائية:
"لا أعلم. بعد شجارها مع جدتك ووقوفك ضدها، غادرت وهي غاضبة. لم تأت معي. ذهبت وهي تتوعد لك."
زفر يونس بغضب، و عيناه تشتعلان قلقًا:
"هل يمكن أن يصل الأمر بخالتي إلى أن تخطف جدتي لتجبرها على بيع المنزل؟"
بدت الصدمة على وجه والدته، فتحت فمها لترد بصوت خافت، بعد أن صدمتها الفكرة:
"خطف؟ خالتك متهورة لكن من المستحيل أن تفعل شيئًا كهذا."
توقفت لبرهة تحاول استيعاب الموقف، ثم سألت بصوت متقطع:
"ما بها جدتك يا يونس؟"
رد بنبرة متوترة وكأنه يواجه حقيقة مخيفة:
"اختفت! بحثت عنها في كل مكان ولم أجدها. فكري معي أين يمكن أن تكون؟ هل تعرفين مكانًا قد تكون ذهبت إليه؟"
تجمدت والدته في مكانها، أتاه صوتها مرتعشًا وهي تحاول أن تستوعب الأمر:
"ماذا تعني اختفت ؟ كيف يمكن أن تختفي جدتك؟!"
رفع يونس يده إلى رأسه محاولاً تمالك نفسه:
"لا أعلم يا أمي لم تترك أي أثر خلفها. ذهبت إلى الفندق، وإلى كل مكان يمكن ان تتواجد به. ولكن لا أثر لها"
قاطعهما صوت خطوات متسارعة تأتي من الخارج، دخلت ليان تركض ووراءها علا تحاول الإمساك بها ومنعها من التحدث:
"ليان توقفي! لا تقولي شيئًا الآن!"
لم تبالي ليان لها ووقفت أمام أخيها قائلة باندفاع:
" علا أرسلت الجواب! أرسلت خطاب رفدك من الكلية إلى جدتنا وأخبرتها انك لست أستاذًا بالجامعة. ولم تكمل دراستك في الهندسة من الأساس. كما أخبرتها عن عملك كصانع محتوى ترفيهي على مواقع التواصل الاجتماعي!"
تجمد الزمن للحظة وقف في مكانه مذهولاً، عينيه تتسعان غير مصدق لما سمعه. وكأن الكلمات اخترقت داخله، ارتبكت ملامح والدته مردفة:
"يبدو أن جدتك قررت أن تعاقبنا باختفائها"
استدار ببطء ناظرا لعلا الواقفة خلف ليان تتجنب النظر إليه. هتفًا بصوت مخنوق:
"ماذا؟ هل فعلت علا هذا؟"
شعور بالغضب المتصاعد سيطر على ملامح يونس حين أدرك أن اختفاء جدته ليس لغزًا غامضًا، بل نتيجة لما فعلته علا، وجه إليها السؤال مرة أخرى ولم يستطع السيطرة على غضبه:
"هل هذا صحيح؟ أرسلتِ الخطاب؟!"
حاولت علا أن تبرر فعلتها. لكن نظراته الغاضبة جعلتها تتلعثم في كلامها:
"يونس، أنا فقط. أردت أن أكون صريحة مع جدتنا. فكرت في مصلحتنا. اعتقدت أن هذا سيجعلها توافق على زواجنا"
تقدم نحوها بخطوات حادة وعينان مليئتان بالغضب والاشمئزاز. مردفًا بصوت مشحون بالغضب:
"مصلحتنا؟! أنتِ معتوهة... هل تظنين أن إرسال خطاب رفدي سيجعلها توافق على زواجنا؟ لقد دمرتي كل شيء! ألا تستوعبين ما فعلتِ؟"
حاولت أن تدافع عن نفسها تتوسله باكية:
" لم أكن أقصد إيذاءك. أردت فقط أن أكون صادقة معها. كنت أحاول أن أصلح الأمور، لأجلنا. لأجل حبنا!"
يهز رأسه مقاطِعًا كلامها بصوته الحاد:
"لأجلنا؟ أنتِ لم تفكري إلا في نفسك! جدتى اختفت بسببك. لقد خسرت ثقتها وخسرت معها كل شئ.
رفع يده ببطء مشيرًا إلى الباب ليكمل:
"لا أريدك هنا بعد الآن. خذي أشيائك وعودي الى والدتك. لم يعد لكِ أهل هنا!"
نظرت إليه بعيون متوسلة، محاولة أن تقترب منه لتشرح نفسها أكثر، لكنه تراجع قاطعًا كل الطرق بينهما حين قال:
" ما بيننا ليس حبًا، هذا جنون لأجل زيادة المتابعين والمشاهدات لا أكثر. كذبنا الكذبة فلا تصدقينها لأننى لن أتزوجك أبدًا، حتى لو كنتِ آخر فتاة على وجه الأرض!"
تجمدت في مكانها ودموعها تتساقط بلا توقف. تدرك في تلك اللحظة أن كل شيء انتهى. لا يهمها انتهاء علاقتها بيونس ولكنها تبكي مستقبلها المرهون بهؤلاء المغفلين الذين تركوا حياتهم وامورها وجلسوا خلف الشاشات ليقرروا ان هذا الثنائي رائع وأصبحت متابعتهم مشروطة ببقائهم معًا.
نظر إليها للحظة أخيرة قبل أن يدير ظهره، مغلقًا الباب على تلك العلاقة التي استنزفت ذاته وأضاعت مستقبله. مهنته. وجدته.
قبل أن يخرج التفت نحو أمه وعلا، اللتين تقفان متجمدتين خلفه. ليحذرهما:
"لا أريد أن أرى أحدًا منكم بالقرب من القصر مرة أخرى!"
تحركت دلال بخطوة للأمام، تحاول أن توقفه قبل أن يغادر:
"يونس، انتظر! دعنا نتحدث، يمكننا البحث عن جدتك والعثور عليها لإصلاح الأمور بينكما"
رفع يده ليوقفها قائلا بنبرة حادة:
"حاولي أن تصلحي مفاسد أختك وابنتها أولًا، وبعدها فكري في أمك"
اندفع خارجًا من المنزل، يغلق الباب خلفه بعنف. رغم ان ظلام الليل احاطه ببرودة الجو لكن قلبه اشتعل حسرة وخوفًا من فقدان الانسانة الوحيدة ذات القلب النقي والوجدان الحي من بين جميع أفراد العائلة .
قرر العودة إلى القصر آملاً في أن يجدها هناك بعد أن تكون قد فرغت غضبها. شعر بثقل الخطأ الذي ارتكبه، واخيرا استفاق يونس من غفلته خاسرا ضميره ووجدانه.
وصل إلى القصر بسرعة فتح الباب الأمامي بقوة مندفعًا إلى الداخل. صعد السلم بسرعة نحو غرفة الجدة لكن. لا أثر لها!
التفت يبحث عن قمر مناديًا:
"قمر. يا قمر"
تردد صدى صوته في أنحاء القصر، لم يكن مجرد صدى عادي بل بدا وكأن الصوت يرتد من مكان قريب داخل القصر، وكأنه يأتي من الغرف الموجودة بالجانب الخلفى للقصر، شعور بالخوف بدأ يتسلل إليه توقف للحظة يستجمع قواه ثم بدأ بالبحث في كل ركن من القصر، يركض عبر الممرات، ينادي على الجدة وقمر بصوت أعلى في كل مرة:
"جدتي! قمر!"
ظل يبحث بلا توقف حتى نزل للطابق السفلى وخرج إلى الحديقة الخلفية للقصر، ليجد قمر واقفة أمام الجدار الخلفي جسدها متيبس وكأنها ترى شيئًا لا يستطيع هو رؤيته. عيناها مسمرتان نحو الجدار المصمت، ووجهها يحمل ملامح القلق والارتباك. هتف بإسمها بصوت عالٍ من فرط القلق الذى يسكنه: "أيا قمر!"
التفتت قمر ببطء نحوه بوجهها الشاحب وعينيها التائهتان. تشير بيدها المرتجفة نحو منتصف الجدار الذي كانت تنظر إليه مردفة بصوت مضطرب وملامح مليئة بالحيرة:
" نافذة الغرفة كانت هنا "
ابتلع ريقه مردفًا بنبرة مهزوزة:
"أى غرفة؟"
_"تلك الغرفة الخاصة بميثال تلك التي ترفض أن يدخلها أحد"
تصلب في مكانه للحظة يناظرها بدهشة قائلا باضطراب: "وهل دخلتيها؟"
أومأت بالإيجاب :
"دخلتها مرة. وحين ذهبت لأبحث عن ميثال داخلها رفض الباب أن يُفتح".
_"رفض أن ينفتح! يجب أن تكون جدتي قد أغلقته قبل ذهابها".
قالها محاولًا تفسير ما تقوله ، قاطعته قمر بنبرة جادة:
"جدتك لم تذهب، إنها بالداخل"
ضحك يونس مقهقها رغم اضطرابه وقلقه على جدته ، فالطريقة التي قالت بها تلك الجملة وملامح وجهها وعينيها المضطربة وكأنها تخبره بشئ مرعب قد حدث أثارت ضحكته ، تعجبت من وضعه ولكن سرعان ما أدركت عدم تصديقه حين أجابها :
" ذهبت جدتي لأنها علمت أنني كذبت عليها بخصوص عملي ودراستي. تريد معاقبتي على ما اقترفت بحق نفسي وحق حلمها وثقتها بي ".
حدث شيء غريب بهذه اللحظة وكأن إنكاره لما أخبرته قمر به أثار غضب الغرفة. ضج صوت انغلاق الباب بدوى عال مرة أخرى.
لتتحدث قمر مباشرة مردفة بيقين:
" هذا نفسه صوت انغلاق الباب الذى سمعناه في الصباح، لم يكن صوت الباب الأمامي. إنه صوت باب الغرفة"
تركته متجمدًا مكانه واسرعت راكضة نحو الداخل. لم يستوعب يونس شيء أسرع خلفها يظن أن جدته قد عادت ولكنها لم تعد!
صعد للأعلى للطابق الثاني حيث تتواجد قمر أمام باب الغرفة تحاول فتحه ولكنه أبى أن يفتح.
التفتت نحوه قائلة:
" أرأيت؟"
انحنت تعيد النظر من فتحة المفتاح قائلة:
"الداخل يبدو كأنه فراغ"
دار بذهنه كل تحذيرات الجدة بشأن هذه الغرفة وغضبها إذا اقترب أحد منها، ومخاصمتها له بصغره كلما لمحته يقترب ناحيتها، لدرجة أنها حرمت على بناتها وأحفادها الاقتراب من الجزء الخلفي الذي يحوي هذه الغرفة.
_"جرب ربما ينجح الأمر معك"
قالتها له ليقترب مبتسما محاولا استنكار أى خطر حول الغرفة مد يده ليفتح الباب مردفا:
"يبدو انك تحتاجين للاهتمام بصحتك قليلا، فقوتك لا تكفي لفتح مجرد باب!"
ردت عليه بنظرة مليئة بالاستهزاء رافعة حاجبيها بسخرية أبى الباب أن ينفتح هذه المرة أيضا استندت على الباب زافرة بحنق مردفة:
"هذا ليس انغلاق طبيعي، المقبض لا يتحرك أصلا"
انحنى لينظر إلى الداخل وما زالت يده على المقبض الذي لان فجأة حين تزامن استنادها على الباب مع لمسه إياه وكان بصماتهم مجتمعة هي مفتاح هذا الباب الغامض العنيد..
فُتح الباب امامهم كاشفًا عن أسرار وخفايا ظلت غامضة لسنوات وسنوات
#رواية_مَقْرَيْنُوس.
#ضي القمر وظلمات يونس.
بقلمي سميحة رجب
يتبع ..
إلى حين نشر فصل جديد من رواية مقرينوس يوم السبت الساعة التاسعة مساءً ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا .