رواية مقرينوس
في لحظةٍ خاطفة استجاب الباب للمسة أناملهما المترددة، وكأنه كان ينتظر بصمتيهما ليفتح معلنًا عن أسراره المدفونة. بين الدهشة والخوف كان انفتاحه بوابةً إلى عالمٍ لا يشبه ما عرفاه من قبل.
بين الحيرة والرهبة ارتعشت قلوبهما وهما ينظران إلى الظلام الدامس خلف الباب. ظلام معتم مشبع بطاقة غامضة. امتزج هدوئهما بصدى غموض تلك الغرفة العتمة . التي يبدوا بداخلها خطب غريب وكأن في أعماقها شيء يراقبهما ينتظر اللحظة المناسبة ليكشف عن نفسه. فهو غير مرئي لكنه محسوس.
____
انفتح الباب بمجرد أن لامساه معًا، كأنه ينتظر بصماتهما المشتركة كمفتاح. تبادل الاثنان نظرات الدهشة قبل أن يتراجع يونس خطوتين إلى الوراء مصدوما، لم يتمكن من استيعاب ما حدث. أما قمر فوقفت في مكانها ناظرة بعينين حائرتين قبل أن تندفع لإغلاقه مجددًا.
حاول كبح توتره قائلا بامتعاض:
"انفتح بأعجوبة! لكِ الحق في الخوف، ولكن لماذا أغلقتيه مرة أخرى؟"
نظرت إليه بلا اكتراث، ثم حاولت فتح الباب مجددًا ولكن كما توقعت دون جدوى!
غضب يونس وقال ساخرًا:
"أرأيتِ؟ ألا تفهمين؟ لماذا أغلقتيه؟"
تنهدت وقالت بنبرة ضيق:
"لا داعي للغضب".
ثم أكملت بثقة وهي تشير للباب:
"إلمسه مجددًا، وسينفتح."
نظر إليها يونس بعدم فهم، وعينيه تائهتين في تعبيرها الواثق، حتى عادت لتتحدث بهدوء:
"يبدو أن الباب لن ينفتح إلا إذا لمسناه معًا"
لم يصدق يونس ما سمعه في البداية، لكن تلك النظرة في عينيها دفعته للامتثال لاقتراحها مقتربًا ببطء و يدان ترتجفان قليلًا، وضع أنامله المترددة على الباب بجوار يد قمر الثابتة.
فور أن اجتمعت لمساتهم انفتح الباب أمامهم مجددًا على مصراعيه، وكأن سحرًا غامضًا قد تم تفعيله بمجرد أن انفتح الباب مجددا، واجه يونس وقمر ظلامًا دامسًا أشبه بفراغ لا نهاية له. كانت الغرفة أمامهما تبتلع الضوء كأنها خالية من كل شيء، بلا أرض ولا جدران يمكن تمييزها. نظر يونس إلى الأرضية التي لم تظهر معالمها مترددًا. وحين رأى قمر تهم بالدخول استوقفها قائلاً بصوت حذر: "تمهلي"
اقترب بخطوات حذرة وانحنى ليمد طرف قدمه نحو ما بدا وكأنه فراغ أمامه، ليتأكد أن هناك أرضية أم لا . و بعد لحظات من التردد، قال:
"حسنًا، فلندخل. لكن سأدخل أولاً"
بحث سريعًا في جيوبه على هاتفه أخرجه وأضاء كشافه محاولًا اختراق الظلام. خطا إلى الداخل بخطى مترددة ومن خلفه قمر تراقب كل خطوة.
فجأة ومع أولى خطواتهما داخل الغرفة، انغلق الباب خلفهما بقوة، مما جعل الصوت يرن في أرجاء المكان. استدار كلاهما بذعر، رفع هاتفه نحو الباب ثم نظر لقمر التى تدور بعينيها تتفحص المكان بقلق.
وقبل أن يتمكنوا من استيعاب ما حدث، سرت أضواء غامضة في أنحاء الغرفة، كأنها تنبض بالحياة تدريجيًا. رفعت قمر بصرها نحو النافذة الموجودة على الجدار المقابل وعيناها مليئتان بالدهشة:
"ها هي النافذة. ولكن لم يكن لها أثر عندما نظرت من الخارج "
كانت على وشك الاقتراب منها لتتفحصها عن قرب، لكن يونس أوقفها بحزم:
"لا تقتربي من شيء قبل أن نفهم ما يحدث هنا"
أومأت بالموافقة وهي تشعر بتوتر يتسلل إليها، ثم التفتت لتجد اللوحة معلقة على الحائط المقابل. كانت صدمتها بالغة حينما رأت ما بداخل اللوحة. فكانت صورتهما مرسومة داخلها، محاطين بهالة ذهبية تشع بالضوء، وكأنهما ليسا مجرد رسم على لوحة، بل انعكاس واقعي أشبه بمرآة.
همست بخوف وارتباك، وهي تشير إلى اللوحة:
" أنظر للوحة!"
توقف الزمن للحظة، عيناه التقتا بتلك الصورة. وهو يسمعها تقول بنفس النبرة الهامسة:
" لم تكن موجودة سابقًا. كان بداخلها طفل رضيع تحيطه نفس هذه الهالة".
اقترب من اللوحة بخطى بطيئة مرتبكه، محاولاً استيعاب ما يراه. مردفا:
" كأنه نوع من السحر، أو انعكاس لحقيقة غامضة لا يمكن تفسيرها".
مد يده نحو اللوحة بحذر يحاول لمسها، تراجع فجأة عندما شعر بتيار بارد يجتاح المكان. تساءل بصوت مرتجف:
"ما هذا؟ ماذا تجسد هذه اللوحة؟"
لم ترد عليه فقط كانت تتأمل و القلق يتزايد بداخلها، تشعر أن ما يواجهونه هو أكبر بكثير مما توقعت ان تجده.
مرّ الوقت في تلك الغرفة العجيبة وهما غارقان في حيرة لا تنقطع، يحاولان استيعاب ما يحدث من حولهما. بدأت قمر تشعر بالفضول أكثر من الخوف، تجرأت واقتربت من بعض الأغراض المكدسة في زوايا الغرفة. حيث كان هناك صندوق خشبي قديم، منقوش عليه رموز غريبة، لفت انتباهها. جلست على ركبتيها مقابل الصندوق وبدون تردد فتحته ببطء، لتكتشف داخله خرائط قديمة تبدو من عصور غابرة.
تفحصت الخرائط بعناية، متمتمة:
"هذه ليست خرائط عادية. وكأنها عائدة لأماكن غريبة، بلغة غير مفهومة، وحدود جغرافية قديمة، ليست كالتي نعرفها اليوم"
نظرت إلى يونس الذي كان يراقبها من مكانه، وقالت بذهول:
"هذه خرائط تعود لما قبل وضع الحدود الفاصلة بين الدول. وهذه الأخرى تبدو وكأنها لمملكة قديمة"
اقترب بفضول ليجلس على ركبتيه بالقرب منها، وبدأ يستعرض معها محتويات الصندوق. عاين الخرائط والرسوم الغريبة مردفا بتأملًا:
"ربما تكون هذه أثريات جمعتها جدتي. فهي مولعة بجمع أشياء قديمة من عصور غابرة، كانت هذه هوايتها المفضلة "
وقفت قمر بعد أن وضعت الخرائط جانبًا، واستدارت تنقل نظرها بين الموجودات الاخرى في تلك الغرفة لتقول بشيء من الحيرة:
"ربما... لكن هذا المكان نفسه غريب، كأنه جزء من شيء أكبر من مجرد مجموعة مقتنيات قديمة"
صمت يونس للحظة محاولًا الربط بين ما يرونه وبين ما قد يكون خلف هذا الغموض. ثم قال بهدوء، وهو ينظر إلى الغرفة من جديد:
"أشعر أن هناك شيئًا خفيًا وراء كل هذا. وكأن هناك أسرار خفيه يخبئها المكان ولم نكتشفها بعد"
بدأت قمر تجوب أرجاء الغرفة بحماس، تنبش في محتوياتها بحثًا عن المزيد من الأسرار. يداها تتحركان بين الرفوف والصناديق، لتكتشف أشياء غريبة. برديات قديمة ووثائق بلغات غير مفهومة، تشبه تلك الموجودة على الخرائط، تماثيل صغيرة ذات تفاصيل دقيقة، أطباق مزخرفة بأسلوب غير مألوف. تملكتها الحيرة وهي تتأمل تلك الأشياء وقالت في نفسها:
"هذه التماثيل لا تبدو فرعونية... وهذه اللغة ليست هيروغليفية... إلى أي حضارة يمكن أن تنتمي؟"
بينما كانت غارقة في استكشافاتها، كان يونس يقف أمام النافذة، نظره عالق بها وكأنها تحمل الجواب الذي يبحث عنه. كان يشعر منذ اللحظة الأولى أن حل اللغز يكمن خلف هذه النافذة الغامضة لذلك منعها من الاقتراب منها. وقف أمامها يفكر في كيفية استكشاف ما قد يكون وراءها، لكن قبل أن يقرر ما سيفعل استوقفه حديثه مع نفسه:
" لن أغامر ومعي فتاة... لا أدري ماذا سأجد خلف هذه النافذة. ثم إنها تعتبر أمانة جدتي، لا يمكنني التصرف بتهور"
شعر بالمسؤولية تثقل كاهله تجاهها، فهو لا يعرف ما ينتظره خلف تلك النافذة، ولكن حدسه كان يخبره أن الأمر أكبر مما يبدو. الغرفة مليئة بالأشياء الغامضة، كل شيء هنا يبدو مرتبطًا بماضي جدته أو عالم غامض لم يعرف عنه شيئًا من قبل. ولكن النافذة هي المفتاح الذي قد يكشف الحقيقة.
فكر في طريقة لاخراج قمر من الغرفة قبل أن يخاطر، قاطع تفكيره صوت طرقات على باب القصر، وكأنها جاءت لتكون النجدة التي يحتاجها يونس. نظر إلى قمر بنبرة مترددة وقال:
"يبدو أن جدتي عادت. اذهبي افتحي لها، لا أريد أن تصطدم بي الآن، فهي غاضبة مني كما تعلمين. سأرتب الغرفة وأخرج حتى لا تنزعج إن علمت بدخولنا"
لم يترك لها المجال للشك فيما ينوي فعله، اقتربت من الباب وحاولت فتحه، لكنه لم يتحرك. عندها أسرع يونس نحو الباب ولامسه قائلاً بمزاح:
"حفظنا السر، يا حضرة الباب"
وقبل أن تخرج، التفتت إليه مردفة:
"لا تغلقه حتى أعود، ولا تخرج من هنا. سأساعدها لتصل إلى غرفتها وأرجع لك"
أومأ بالإيجاب، لتخرج قمر مسرعة بلهفة معتقدة أن الطارق هو "ميثال" ولكن سرعان ما أصابها الإحباط عندما اكتشفت أن دلال والدة يونس هي من جاءت للتحدث مع ابنها ولترى إن كانت والدتها قد عادت أم لا.
ناظرتها دلال تتفحصها من شعرها حتى أخمص قدميها قبل أن تسأل :
"هل عادت أمي؟"
ردت قمر بخيبة أمل:
"ظننتها هي من أتت"
تساءلت الأخرى بقلق:
"ألم يأتِ يونس هنا؟"
وقبل أن تجيب قمر، سمعا صوت انغلاق باب الغرفة بعنف. تركتها قمر دون رد وأسرعت إلى الطابق العلوي لتجد أن الباب قد أغلق مجددًا. لحقت بها دلال بخطى متسارعة، وبصوت مضطرب قالت: "لا تقولي أن يونس دخل هذه الغرفة؟"
أومأت قمر برأسها بالإيجاب، لتبدأ دلال في دق الباب بعنف، منادية عليه بصوت باكي، لكنها لم تلقَ أي إجابة.
خاطبته قمر من الخارج بصوت ملؤه القلق:
"المس الباب الآن وسيفتح!"
كان يونس واقفًا أمام النافذة، ينظر إليها تارة وإلى الباب تارة أخرى. عقله مشغولا بلغز النافذة الغامضة التي يشعر أنها تحمل سرًا كبيرًا. قال بصوت هادئ وثابت:
"سألمس الباب. عندما اكتشف سر هذه النافذة "
تصاعد القلق بالخارج حين صرخت بها دلال:
"لماذا دخل الى هنا ايتها المشؤومة، هذه الغرفة مسحورة. مسحورة".
رجعت دلال للخلف وهي تشعر بالعجز. خوفها على ابنها يلتهمها من الداخل مثل نارٍ تشتعل ببطء لا تترك شيئا سليما. شعرت كأن قلبها محاصر بين قضبان القلق، ينبض بعنف محاولا الفرار. جسدها يرتعش، ويداها باردة رغم حرارة جسدها المتعرق. كل ذكرى لتحذيرات والدتها كانت ترن بأذنيها. لتعيد إليها مشاهد طفولتها حين كانت تسمع الأساطير المرعبة حول تلك الغرفة.
في تلك اللحظة لم يكن العالم حولها سوى فوضى من الخوف والرهبة. ترى وجه يونس وعينيه البريئتين تبحثان عنها، لكنها عاجزة عن الوصول إليه. صوت خطواته المتسارعة حين خرج من المنزل كان يتردد في أذنيها كصدى لنبضات قلبها المتسارعة، ومع كل خطوة تشعر وكأن الأرض تبتلعها أكثر في دوامة من الضياع والهلع. أفكارها مشوشة مختلطة بين الندم والذعر، تتساءل:
"كيف سمحت له بالاقتراب من هذا القصر في غياب أمي، كان يجب أن أتوقع دخوله للبحث عن أى شئ يقربه من العثور عليها"
هتفت بتيه: "أمى! يجب أن أجد أمي"
خرجت مسرعة تطوى الأرض بقدميها لا تعلم أين ستذهب وكيف ستجدها!
بقيت قمر واقفة أمام الباب المغلق، تتنفس بصعوبة وقد شلها الخوف. تعلم أن دلال لن تستطيع إيجاد أمها، لكنها أيضاً عاجزة عن التصرف. ظلت تحدق في الباب كأنه وحش يبتلع كل من يدخله، كانت الفكرة الوحيدة التي تشغلها الآن هي:
" هل إنغلق الباب وحده؟ أم أن يونس تجاهل كل التحذيرات وأغلقه؟"
استمر يونس في فحص النافذة داخل الغرفة، يشعر أن هناك شيئًا خلف الزجاج يدعوه لفهم سر مخفي. تبدو تلك النافذة عادية للوهلة الأولى، لكن كلما اقترب منها، ازداد الشعور بالغموض. وضع يده على الزجاج البارد، وفي تلك اللحظة شاهد ظلاً خافتاً يظهر خلفه، كأنه انعكاس لشيء لم يكن موجوداً في الغرفة من قبل.
في تلك الأثناء كانت دلال تجري بلا وجهة في محاولة للعثور على أمها، والوقت يمر كأنه عدو يتربص بهم جميعاً. أما قمر فكانت تشعر بأن شيئًا ما لا يُرى يراقبها هي أيضاً، وكأن الغرفة لا تحتجز يونس وحده، بل تمتد أسرارها إلى ما هو أبعد من جدرانها المغلقة.
اقترب من النافذة بخطى مترددة، كلما حاول النظر منها تراجع خطوة للخلف، تكررت المحاولة مرة، مرتين، حتى اندفع في الثالثة.
ما رآه غريبًا للغاية. النافذة تطل على مكان ملموس لكنه غير مألوف تمامًا. مد يده بحذر لتلفحها نسمات هواء باردة وكأنها قادمة من عالم آخر.
تملكه شعور بالدهشة والخوف معًا. لم يستطع تصديق ما يراه، لكنه في لحظة شجاعة قرر أن يغامر. قفز من النافذة ليجد نفسه في عالم آخر، وكأنه انتقل إلى بلدة بعيدة، الجو مختلف تمامًا، والرائحة غريبة ليست تلك التي اعتادها.
أدار ظهره للنافذة التي خرج منها، وبدأ يخطو خطوات بطيئة في المكان الجديد الغريب، المملوء بأشجار كثيفة تتشابك أغصانها وتخفي كل ما فوقها من سماء وسحب. شعور بالغموض يلف المكان، كأنه غابة سحرية لا يعرف حدودها.
قطع مسافة كبيرة حتى أصبحت النافذة خلفه مجرد نقطة بعيدة في الأفق تتضاءل تدريجيًا. شعر للحظة بأنه ابتعد كثيرًا، ولكنه لم يستطع مقاومة رغبة الاستكشاف. التفت لينظر إلى النافذة للمرة الأخيرة قبل أن يخطو خطوتين أخيرتين نحو الأمام. وما إن خطى تلك الخطوتين حتى تغير كل شيء فجأة.
وجد نفسه في مكان مغلق مظلم تمامًا، لا أثر للهواء أو الأشجار، كأنه انتقل إلى غرفة أخرى أو بعدٍ مختلف! توقف في مكانه، قلبه ينبض بشدة، محاولًا أن يستوعب ما يحدث، ولكن الظلام الذي يحيط به بدأ يثير داخله إحساسًا عميقًا بالخطر.
أخرج هاتفه وأضاء به المكان ليكتشف أنه يسير في سرداب ضيق. جدران متقاربة. مبنية من حجارة قديمة متآكلة بفعل الزمن، وسقف منخفضًا بما يكفي ليشعر بالضيق وهو يتحرك. رائحة الرطوبة تملأ المكان، الأرضية غير مستوية، مغطاة بطبقة رقيقة من الغبار الذي يعكر خطواته. الهواء باردًا وخافتًا، وكأن هذا المكان لم يطأه أحد منذ سنوات طويلة.
لم يدم الأمر طويلاً. فجأة عند نقطة معينة في السرداب انطفأ هاتفه تمامًا حين فقد الإشارة ونقطة الاتصال، وتحول الجهاز في يده إلى قطعة معدنية باردة بلا قيمة. وقف في الظلام الدامس، لا يرى شيئًا، لكنه لم يستسلم. أبى أن يعود مصممًا على المضي قدمًا. يشعر بأن سر هذه الغرفة وما حدث له، واحتمالية وجود جدته في مكان ما هنا.
تابع السير ببطء كل خطوة ترتطم بالأرضية غير المستوية، والظلام يزداد ثقلاً حوله. فجأة اصطدم بشيء صلب. توقف بحذر ظن للحظة أنه جدار، لكن عند لمسه أدرك أنه باب معدني بارد. دفعه بيده ليكتشف أنه ينفتح بسهولة، تراجع قليلاً تأهبًا لما قد يجده خلفه.
كانت المفاجأة صادمة له عندما دخل من الباب المعدني ليجد نفسه في نفس غرفة القصر التي انطلق منها. وقف للحظة مذهولًا، قبل أن تخرج منه ضحكة خافتة مليئة بالدهشة والارتباك، مردفا بصوت مفعم بالبلاهة:
"يا لسخافة ما مررت به. ظننت لوهلة أنني انتقلت لعالم آخر. هذا الممر يدور حول القصر، يبدأ من الغرفة ويعود إليها. لم يكن هناك داعٍ لهذا الرعب!"
حاول تهدئة نفسه، لكنه لم يستطع التخلص من الشعور بأن ما مر لم يكن مجرد وهم.
اقترب من الباب وهمّ أن ينادي على قمر لتفتح له، لكن شيئًا ما استوقفه. التفت ببطء ودار بنظره في أنحاء الغرفة. لاحظ أن الصناديق الموجودة هنا تشبه تلك التي رآها سابقًا، لكنها أكبر حجمًا وأكثر قدمًا. ظن أن هناك شيئًا خاطئًا، إذ قال لنفسه بصوت خافت:
"أين اللوحة الغريبة؟ وأين النافذة؟ هذا الباب موجود مكان النافذة؟"
خرج من الغرفة بخطوات مترددة متفاجئا بانفتاح الباب بسهولة، شعر أن الهواء نفسه قد تغير ليصبح ثقيلًا، مشبعًا بعبق زمن قديم. ظن في البداية أن كل شيء على ما يرام، لكن مع كل خطوة، كان القصر يكشف عن وجه آخر، غامض ومليء بالأسرار. الجدران التي اعتاد رؤيتها بدت أحدث، كأن الزمن قد عبث بها، بينما الأثاث كان يكتسي بطبقة خفيفة من النقوش المزخرفة التى لم يبصرها من قبل. بدت وكأنها جديدة عكس ما اعتاد.
لم يكن وحده أحاطته أصوات حركت سكونه وحيرته، أصوات أقدام تخطو بخفة. همسات تتردد في الممرات، وكأن هناك أشخاصًا يتنقلون في الظلال، يجوبون القصر دون أن يراهم.
استند إلى الحائط يتأمل ما يدور حوله، شعر ببرودة غير طبيعية تسرى في جسده، وأدرك حينها أن هذا ليس بالقصر الذي عرفه رغم انه يشبهه.. لا لا. لا بل يشبهه. انه نفسه ولكن من هؤلاء؟
نظر أمامه بعينين متسعتين ليجد أشخاصًا يتحركون في الأرجاء، ملامحهم غريبة وغير مألوفة. يرتدون ملابس عتيقة تعود لحقب سابقة، لم ينظروا إليه، كأنه مجرد طيف بينهم. كلما ركز على وجوههم، تلاشت الملامح في ضباب غامض، مما زاد من حيرته وخوفه.
أصوات متداخلة بدأت تتسرب إلى مسامعه، بعضها لم يكن بلغة يفهمها، لكن واحدة من تلك الأصوات تسللت إلى وعيه بوضوح حين هم بالتحرك صاعدا للأعلى حيث غرفة جدته مستمع :
"أيها الخادم! تعال إلى هنا! احذر أن تقترب من غرفة الأميرة!".
أجفله الصوت لكنه لم يتوقف، تصاعدت خطواته نحو الطابق العلوي متجاهلًا النداء. كان ذهنه مهووسًا بفكرة واحدة دخول غرفة جدته! في كل زاوية، كان يصطدم بوجوهٍ غريبة، أشخاص يتحركون كأطياف، بعضهم مألوف له وكأنهم جزء من ذاكرته الغابرة، لكنه لم يتمكن من إدراكهم تمامًا، كأنهم مشاهد تومض ثم تتلاشى في طرفة عين.
دخل نحو غرفة جدته باندفاع هاتفًا: "جدتي؟"
لكن لحظة دخوله اعترته الصدمة. توقف فجأة حين وقعت عيناه على فتاة شابة تقف بثبات ملكي أمامه. ملامحها هادئة، محاطة بهالة من القوة. ترتدي ثوبًا فخمًا من الحرير الأزرق الداكن، مزينًا بخيوط ذهبية دقيقة تلتف حول جسدها. شعرها الأسود الطويل يتدلى على كتفيها، تزينه مجوهرات فضية براقة، وتاج صغير مرصع بأحجار كريمة على رأسها، يلمع بهدوء تحت الضوء الخافت.
عيناها الداكنتان تراقبانه بحدة وثقة، وكأنها تعرف كل ما يدور في ذهنه قبل أن يتكلم. وقفت بظهر مستقيم، كل حركة منها تعكس الرزانة والسلطة الملكية. بصوت هادئ يحمل نبرة لا تقبل الجدال، مردفه :
"من أنت لتدخل غرفتي بهذه الجرأة؟ وكيف تجرؤ على البحث عن شخص آخر هنا؟"
وقف يونس متجمدًا وقد غمرته الدهشة والارتباك، الكلمات لم تسعفه، عقله يحاول فهم ما يحدث. من تكون هذه المرأة؟ من هؤلاء الناس الموجودين في قصره؟ أين جدته؟ كيف انتهى به الأمر في هذا الموقف؟
أسئلة كثيرة تدور في ذهنه، لكن الجواب بدا بعيدًا، كما هو الحال مع قمر التي عسكرت أمام الغرفة تنتظر أي استجابة أو رد منه!
لكن دون جدوى!
يتبع…
يتبع لحين نشر الفصل الجديد يوم الخميس الساعة الثامنة مساءا، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة على المدونة منها الكاملة ومنها قيد النشر حصرية.