رواية مقرينوس
#ضي_القمر_وظلمات_يونس.
بقلم سميحة رجب
حديقة صغيرة ممتدة أمام منزل بسيط تعلو فوقه سماء ليست فضاءً فارغًا بل دوامة من ألوان وظلال متداخلة، تتحرك الغيوم ببطء كما لو أنها نسيج من الزمن نفسه. ظهرت اشراق بوسط الحديقة لا تحمل الأرض ملمس قدميها، وكأنها تطفو فوق هوة لا نهائية.
فهمت اشراق بحدوث شيء مهم اسرعت لتدخل منزلها عابرة لغرفتها مستمعة لدوي صوت فتح الصندوق الخشبي السحري منذر بوجود خبر جديد ، تراجعت اشراق للخلف خطوتين تنظر نحو خروج تلك البلورة الشفافة التي لا تشبه سائر البلورات، بدأت ترتفع تدريجيًا حتى علقت البلورة في الهواء بشكل سحري يتحدى الجاذبية بقوته.
انعكس من النافذة ضوء خافت من السماء كهالة زرقاء باهتة أضافت للمكان إحساسًا بالغموض والسحر .
تبدو البلورة كمفتاح يحوى أسرار العوالم تجسد داخلها مشهد أشبه بمرآة لعالم آخر ، ظهرت أمام اشراق غرفة القصر التي تفصل بين "الشئ" و"اللاشئ".
في البداية لم تكن الصورة واضحة تتشكل وتختفي وفقًا لإيقاع غامض. انفرجت مَظَاهِرُها لتتضح الصورة مبصرة الفتاة قمر في منتصفها، اقتربت إشراق مدققة بالبلور محاولة فهم وجودها الغريب هناك ، رأتها تقف وحيدة. شاردة. عيناها متسعتان كمن يحاول استيعاب لغز يفوق إدراكه. تدور ببطء تبحث عن جواب عن سؤال لا تعرفه.
خفق قلب إشراق حين وضحت الصورة أكثر مظهرة الصندوق بين يدي قمر والذي أشبه من خرجت منه البلورة، ذاك الذي يحمل أسرارًا تتجاوز الزمن.
تابعت قمر لتراها تمسكه للحظات ثم تضعه جانبًا بتردد وكأنها تشعر أن ما بداخل الصندوق أكبر مما تستطيع استيعابه.
اشتعل بريق قوي في عيني إشراق، إحساس لا يوصف يجتاحها، خليط من الحماس والترقب. ثبتت الصورة على قمر لحظة وقوفها في منتصف غرفة القصر بين تلك اللوحة وجدار النافذة.
تحدثت اشراق مردفة:
"اللوحة تتجهز للحدث الكبير . حان وقتك يا قمر ، مغامرتك تتهيأ لقدومك كي تخوضيها. أنتِ من سيدون آخر فصول مقرينوس بيدك ، ستكونين قلم مقرينوس النابض يا قمر ."
وكأن صوتها اقتحم جدار البلورة حين ازداد ارتباك قمر وخرجت من الغرفة وكأنها تهرب من شئ خفى.
تلاشت صورة غرفة القصر من البلورة تابعها اختفاء الشعاع المسلط على البلورة التي بدأت تنكمش شيء فشيء لتعود داخل الصندوق تدريجيًا.
دوى صدى انغلاق الصندوق بشكل تلقائي في القصر تابعة انغلاق صوت انغلاق باب الغرفة التي نسيته قمر مفتوحا على مصراعيه حين خرجت منه يلاحقها ذعرها.
_____
اصَطحِبَت دلال أختها يسرية للقصر فور وصولها من السفر، دخلا وعيونهم معلقة على شموخ أعمدته العريقة ، أصدرت أقدامهما صدى خفيفًا في أروقة القصر الواسعة والمليئة بذكريات غابرة بالنسبة لهما.
نظرت يسرية حولها بنظرة حازمة ارتفع صداها رغم نبرتها المخفضة:
"سأقنعها. لا سبيل أمامها للرفض، لن أعود إلى كندا قبل أن يتم بيع القصر"
ردت دلال رافعة حاجبيها في استنكار:
"هل تعتقدين أنكِ ستنجحين فيما لم يقدر عليه يونس؟ حاولنا و حاول هو مرات عديدة ولكن أمي صلبة كالصخر في رفضها"
ابتسمت يسرية وهي تلمس بإصبعها طرف إحدى اللوحات القديمة على الجدار، وكأنها ترسم خطة في ذهنها مردفة ببرود :
"أنا لي طرقي الخاصة"
صدح صوت حاد من الأعلى قبل أن ترد شقيقتها عليها ، وقفت ميثال على قمة السلم الحلزوني تراقب دخولهما وحديثهما منذ لحظة وصولهما دون ان يلاحظها .
علقت عيناهما على نظرتها الثابتة بحزمها وشدتها، بدأت ميثال بنزولها الدرج ببطء:
" طرقك الخاصة تمكنك من بيع مع تملكينه ، لا ما امتلكه انا "
توترت دلال بنظراتها بينما ثبتت يسرية بابتسامة صغيرة رسمت على شفتيها كادت ان تكون ساخرة مردفة ببرود:
"ألم تري أن الوقت قد حان لتغيير بعض القوانين"
توقفت ميثال بيديها المشبكة خلف ظهرها على آخر درجة من درجات السلم مردفة بنبرة هادئة يملؤها الضيق من ابنتها قاسية القلب التي لا يحركها سوى شغفها في جمع أكبر قدر من المال: "القوانين لا تتغير يا يسرية، إلا إذا كنتِ مستعدة لمواجهة كل شيء يترتب على ذلك التغيير"
شعرت دلال أنها وسط معركة خفية، بادرت بالتحدث لتهدئة الأجواء:
"نحن هنا لكي نتحدث ونتفاهم يا أمى، جميعنا نريد الأفضل لكِ و للعائلة"
نظرت ميثال نحو دلال لوهلة محركة نظرها فورًا لتلتقي بعيني يسرية قائلة:
"لن أفرط في تلك الذكرى الخالدة لتاريخ القصر"
تراجعت يسرية خطوة إلى الخلف وكأنها ستضعف ولكن سرعان ما استعادت رباطة ثباتها مردفة:
" تاريخ القصر. تاريخ القصر. ألم تري أنه أصبح عبء علينا "
دارت ميثال بعينيها على جدران القصر المحيطة بهم قائلة:
"العبء ليس في الحجارة والجدران. العبء الحقيقي في نفوسكم. في الأرواح التي تحاول السيطرة على ما لا تملكه . يجب أن تطهروا نفوسكم من اللغط الملغم بها. القصر سيظل باقيًا كما هو شئتم أم أبيتم سيبقى ".
تصاعدت التوترات وصار الوسط مشحونًا بالكلمات الثقيلة على الطرفين ، صرخت يسرية بصوت منطلق كالسهم الحادة بوجه أمها
"يبدو أن للسن حكمه. ولم تعودي قادرة على الإلمام بكل شيء! أبناؤنا بحاجة للمال ، ولا يوجد حل سوى بيع القصر وتقسيمه بيننا"
ارتسمت على وجه ميثال نظرة ضيق حادة مجيبة على ابنتها بصوت مشحون بالألم والحسرة:
"أعطيتكم الفندق لتتقاسموا إدارته بينكم، تركت الأرباح لكم بالكامل. لم آخذ قرشًا واحدًا. وماذا حدث؟ فشلتم جميعًا، حتى اصبحت المواسم تمر دون أن أرى نزيلًا واحدًا في ذلك الفندق. والان تطلبون مني أن أضع إرث العائلة بين أيديكم من جديد كي تهدروا قيمته ؟"
حركت دلال شفتيها بتردد متفاديه النظرات القوية التي تبادلتها ميثال ويسرية مردفة على حذر : "لأن الفندق يحتاج إلى تمويل وإصلاحات كثيرة، ونحن لا نملك المال لنقوم بذلك . عكس القصر الذي سيباع ويدر علينا الكثير يقسم على ثلاث أقسام. قسمين لنا ولكِ قسم خاص تتصرفين فيه بحريتك "
تملكتها الحسرة حيال حديث بناتها قاسيات القلب، هزت رأسها بحزن إدراكها خروج الأمور عن سيطرتها مردفه بصوت مبحوح يحمل في طياته الأسى
"تقسيم التاريخ وبيعه. هذه بداية اللعنة"
تقدمت ميثال بخطوات ثقيلة نحو السلم صعدت درجاته واحدة تلو الأخرى وقلبها يثقل بخيبة أمل لا يمكن إخفاؤها، توقفت حين سمعت صوت يسرية وهي تردف بصوتها المرتفع :
"إن لم نتفق على بيع القصر، فلن يكون هناك حل آخر سوى رفع قضية حجر عليكِ"
تحجرت وثبتت أقدام ميثال فور سماعها كلمات يسرية وما تبعها عندما أكملت قائلة
" وبعدها. المحكمة ستنطق الحكم لصالحنا. وهذا ما أكده المحامون لنا "
ساءت حالة ميثال بدا ظهرها مثقلًا أكثر مما كان قبل لحظات. حركت شفتيها للحظة تريد الرد ولكنها تراجعت ملتزمة بصمتها مكملة صعودها لغرفتها بدون النظر لهم تاركة خلفها حطام حوار شق قلبها.
لم يلاحظ أحد وقوف قمر في زاوية بعيدة أعلى الدرج تراقب الصراع الذي مزق العائلة بصمت. عيناها تنتقلان بين ملامح ميثال المليئة بالحزن والألم وبين وجوه يسرية ودلال التي انطوت على قسوة وقرارات تبدو كأنها لا تعرف التراجع. شعرت قمر أن ما يحدث أمامها ليس مجرد خلاف عائلي بل أكبر من ذلك.
وفي لحظة غير متوقعة التقت عيناها بعيني ميثال التى توقفت للحظة ناظرة نحوها بنظرة ملأت بالضعف الذي لم يسبق أن تراها عليه من قبل.
حاولت ميثال رسم ابتسامة على شفتيها عاجزة حين ظهرت ابتسامتها شاحبة بوجه قمر، شعرت قمر بهذه اللحظة بحاجة ميثال إليها وليس العكس، فهناك شيء غريب غير مرئي يلامس قلبها دفعها للتحرك تجاه ميثال حين لاحظت أنها ليست على ما يرام.
وضعت ذراعها بلطف حول خصرها لتسندها، .
وعلى غير عادتها بثباتها وصلابتها اتكأت ميثال على قمر في سيرها وكأنها تضع كل إرثها وهمومها على كتفيها.
صُعقت يسرية في تلك اللحظة اتسعت عيناها وكأنها رأت شبحًا ينبعث من أعماق القصر.
كانت قمر الشخص الوحيد الذي لم تتوقع أن يظهر في حياتهم أبدًا بل الوحيد الذي يستحيل رؤيته بالقصر ، اقتربت يسرية خطوتين من السلم تتأمل تلك الغريبة بالنسبة للجميع عداها.
تغيرت حالتها حين شعرت فجأة وكأن الأرض تهتز من تحتها. كأن أساسات القصر ذاته تتزلزل أسفل قدميها. بات جسدها ثقيلاً وكأن الجدران القديمة للقصر تميل عليها ، كلما حاولت السيطرة عليه بدأ ينهار أمام عينيها!
صرخت فجأة بنبرة مضطربة :
"سنقدم هذا الدليل للمحكمة. ونحن نخبرهم بأنك تجلبين المشردين من الشوارع لتعطيهم قيمة بالقصر بدلا منا"
صدح صوت ميثال من أعلى درج القصر بقوة:
"دلال! فلتأخذيها من أمامي وإلا سأكتب القصر باسم قمر لتموتوا حسرة وقهر مثلما فعلتم بى الأن . لتروا حقًا كيف يتصرف من هم بغير عقل "
كانت كلمات أمها كفيلة بارباك توازنها الداخلي، مدركة وقتها أن الأمور لم تعد على نصابها وأنها هي الخاسر الأكبر لا محالة .
صرخت بقسوتها من جديد :
"هل تهدديني؟"
استدارت ميثال ناحيتها مردفة بصوت خفيض مليء بالثقة :
"لا. بل ألزمك حدك"
استندت ميثال على قمر اكثر مكملين سيرهم جهة الغرفة.
ساندتها هي الأخرى وضمت جانبها وتحركت بها على السلم، فلم تستوعب يسرية الكلام ولا رؤيتها لأمها تستند على غريبة تهدد استقرارهم واستقرار مستقبلهم.
تأجج الغضب داخلها كالبركان تحركت مسرعة صاعدة السلم متجهة نحو قمر منقضة عليها كانقضاض الوحش على الفريسة الضعيفة ممسكة بشعرها لتسحبها منه بقوة.
صرخت قمر متألمة حاولت ميثال الإمساك بيد ابنتها مرددة بغضب:
: "هل جننت؟ اتركيها"
لم تستجيب يسرية سحبت قمر اكثر وهي تكز على أسنانها قائلة بغيظ:
"ستخرجين من هنا. ستعودين للشارع الذي أتيت منه".
بينما قمر لا تزال تتألم و ميثال تصرخ بها أن تتركها. ظهر يونس ممسك بيد خالته بقوة ليبعدها عن قمر مردفًا باستنكار:
"ماذا تفعلين يا خالتي! اتركي الفتاة. ماهذه التصرفات التي لا تليق بكِ ؟"
أرخت يسرية يدها تاركة قمر أخيرًا ، نظر يونس نحو ركض قمر محتمية بجدته التي ضمتها بقوة مقتربًا من خالته مهمهم بكلماته التي سقطت على اذنيها كالصاعقة
"إياكِ أن تقتربي منها أو تفكري في أذيتها مرة أخرى أنا أحذرك"
حملقت يسرية به مردفة :
" هل جننت مثل جدتك أم ماذا؟"
رد يونس غاضبا رافضا لما سمعه :
"خالتي. هذا القصر ليس ملكى ولا ملكًا لأحد غير جدتى، سيتم غلق هذه الصفحة ولن يتحدث أحد بخصوص بيعه مرة أخرى، لن أسمح لأحد أن يجبر جدتى على ما لا ترغب بفعله. سأقولها مرة أخيرة. هذا القصر لجدتى وهذا يعني أنها ستستضيف به من تحب وتسمح ببقاء من تريد"
_"يبدو ان تلك المشعوذة أطعمت ابنك سحرًا كما فعلت بأمك"
قالتها لدلال حاملة حقيبتها لتغادر المكان وهي تردد:
" لا بأس لنا لقاء آخر"
نظر يونس نحو جدته بعيون آسفة ليجدها بالكاد تتمكن من الوقوف على قدميها. أسرع نحوها ممسكًا بيدها بحنان أردف به :
"تعالي، سأساعدك في الوصول إلى غرفتك"
وضعت الجدة يدها المرتجفة على ذراعه ليقودها بهدوء و عند وصولهما إلى غرفتها ساعدها على الاستلقاء في سريرها واضعًا الوسادة خلف رأسها بعناية. ثم ذهب ليجلب لها كأسًا من الماء، وضعه بجانبها مقتربًا منها مقبلاً يدها برفق مردفًا بحزن وتعاطف :
"أعدك يا جدتي انه لن يتكرر . لن أسمح لأحد أن يحزنك مرة أخرى"
ابتسمت ميثال لحبيب روحها برفق و عينان كانتا تعكسان حزنها ويأسها من ابنتها، رفعت يدها ببطء مردفة :
"أريد أن أبقى وحدي يا يونس"
تردد للحظة قبل أن يهز رأسه موافقًا، ثم هم بالخروج متوجهًا للباب ، رأى قمر تجلس في زاوية الممر صامتة.
ظهرت على وجهها علامات الارتباك فور رؤيتها له منصدمة بموقفه وحديثه حين توقف أمامها معتذرًا:
"أنا آسف على ما فعلته خالتي"
هزت قمر رأسها دون أن تنطق، لم تتمكن من إخفاء دهشتها من بقائه أمامها.
بدا عليه التردد كأنه يبحث عن الكلمات المناسبة ليكمل حديثه . عيناه تراقبانها بصمت لم يكن عاديًا، اخترقت نظرته حدود المألوف متفحصةً تفاصيل وجهها الصغيرة ، التقاطعات الدقيقة على جبينها، خط الحاجبين، وانسياب شعرها الذي يغطي نصف وجهها.
شعرت بثقل نظراته التي تحاصرها بفضول غير مألوف، ابتسم يونس ابتسامة خلت من المزاح أو السخرية كالسابق ، ابتسامة شخص استوعب شيئًا جديدًا جميلًا وغير متوقع.
ما زال واقفًا أمامها صامتًا يمعن النظر بفضول داخلي يدفعه ليتأملها بطريقة جديدة، وكأنه يرى في ملامحها مشهدًا لم يره من قبل.
عيناه تتنقلان ببطء بين ملامحها و خصلات الشعر التي تتدلى على وجهها.
تحدث فجأة دون مقدمات أو تفسير :
"سيكون أجمل ان رفعتي شعرك عن نصف وجهك"
شعرت قمر بالارتباك، بينما ابتسم هو مرة أخرى تاركها ليغادر المكان .
رفعت يدها كي تتحسس وجهها وشعرها بحزن عدن تأكدها بصدق ما قاله ، شيئًا ما في كلماته جعلها تشعر بثقل غامض على قلبها بعد ان أصبح أى مدح موجهه لها من جهته لا يترجمه عقلها إلا سخرية او استهجان.
_____
ذهب يونس لمكانه المعهود في ركن التصوير الخاص به، هذا المكان الذي لطالما لجأ إليه عندما أراد الابتعاد عن الضغوطات.
امسك ورقة بيضاء تاركًا يده تتحرك بعشوائية عليها دون تخطيط أو هدف محدد. عقله مشغولًا، متنقلًا بين أفكار مشتتة، أصابعه ترسم بلا وعي تحاول ترجمة مشاعره المضطربة. الخطوط تتشكل. ظلال تتداخل. إلى أن وجد نفسه في النهاية قد رسم شيئًا واضحًا.
توقف للحظة ناظرًا إلى الرسم أمامه. لم يكن هذا ما ينوي رسمه، شعر بالدهشة وهو يتأمل التفاصيل التي انبثقت أمامه دون قصد
متعجب من ملامح قمر التي بدت واضحة أمامه. تلك النظرات الحائرة، شعرها المتدلى على جانب وجهها.
ابتسم بتلقائية متذكر تلك اللحظة عندما وقف أمامها في القصر يتأمل ملامحها بعينين غريبتين عليه. حين جذبه شيء ما في قمر شيء غير مفهوم لكنه قوي بما يكفي ليبقى عالقًا في ذهنه.
ابتسم مجددًا وهو يتذكر بلاهته في تلك اللحظة حين قال لها أن ترفع شعرها عن نصف وجهها. خرجت كلماته منه بعفوية وربما بدت سخيفة لكنه لم يستطع منع نفسه من قولها.
سرعان ما استيقظ من أفكاره، مستنكرًا هذا الشرود الذي وقع فيه.
وقف بسرعة محاولًا نفض تلك الأفكار عن رأسه متوجًا نحو كاميرته التي كانت موضوعة في زاوية ركن التصوير المعد بعناية كبيرة في اختيار الديكور الشبابي الخلفي والمقعد باهظ الثمن ، شغّل الكاميرا بحركة سلسة، استعدادًا لتصوير مقطع فيديو جديد لمتابعيه.
كان يونس محترفًا يعرف كيف يتحكم بمزاجه، وكيف يخفي ما يدور في داخله فور خروجه لمتابعيه الوجه المشرق الذي اعتادوا رؤيته.
فتح بث مباشر ليبدأ التصوير بأولى كلماته
"أصدقائي.
سمع صوت الأذان يقطع حديثه ..
ردد معه " الله أكبر. الله أكبر "
مكملا بعدها " هل أخبركم بسر انتظامي في صلاتي؟
سبحان أذن كي نتشارك الحديث عن الصلاة ، حسنا لنكمل حديثنا ومنه يذهب كل منا للصلاة.
سر انتظامي في صلاتي يا رفاق هو أنني أيقنت أن لا أحد يقبل لقائي خمس مرات في اليوم في بجميع حالتي سعيدا كنت أو حزينا، ضعيفا أو قويا، منصرا أو منهزما إلا الله أرحم الراحمين، وانتم سأسألكم سؤالا ولنتشارك الإجابة في التعليقات.
كيف انتظمتم في صلاتكم؟.
اكتبوا لي وسأقرأها جميعها بعد انتهاء البث وطبعا ادائي لصلاتي.
نلتقي في فيديو جديد وإلى هذا الوقت تذكروا إني احبكم"
اغلق البث زافرا براحة انتهاء تسجيله ثم وقف من مكانه وعدل من هندامه ثم شعره وحمل حقيبته الخاصة برسوماته وتحرك نحو سيارته الفاخرة مرددا بفخر:
"الفيديو سيجلب آلاف المشاهدات والمشاركات."
مضى نحو وجهته دون أن يؤدي صلاته وكأن شيء لم يكن ، قبل قليل ينصح و ينوه بأهمية الصلاة بوقتها والانتظام بها وهو من يحتاج للنصح. جميعها لأجل كسب الشهرة ومزيد من المتابعين.
ذهب يونس مباشرة للفندق أوقف سيارته وترجل مدلفا إلى الحديقة ليجد علا تنتظره على أحد الكراسي بتعالِ تقلب في هاتفها تضحك تارة وتستهزاء تارة مما تراه .
شعرت بصوت يقترب منها رفعت رأسها فرحة بقدومة تحركت من مكانها واحتضنته بحب قائلة:
"أخيرا عدت، اشتقت اليك."
ابتعد عنها قائلا بعبوس:
"ماذا تفعلين هنا؟"
عادت لمكانها على مضض مردفة :
"كنت أنتظرك لنتحدث عن موضوع قمر تلك التي تشاجرت مع تمى بسببها. لكن انتظر لحظة . ما هذه النصائح التي اشعلت التيك توك بها ؟ لوهلة صدقتك "
تحرك من مكانه مردفا بضيق:
"لماذا؟ ألست مسلما! ربما أكون مخطئا ضالا عن طريق الحق لكني مؤمن مقر أنه لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله."
هرولت نحوه حين أيقنت انه انزعج ممسكة بذراعه مردفة :
"لا تغضب. امزح معك فحسب".
سحب ذراعه ورد بامتعاض:
"لا عليكي لم أغضب. جئت إلى هنا كى أفرغ رأسي من صراعات خالتي وجدتي. اتركيني وحدي بعض الوقت".
امسكته مرة اخرى مردفة :
"انتظر لم أنهي كلامي بعد، كما أنك لم تجبني عن سؤالي".
رمقها برفعه لحاجبه:
"أي سؤال؟"
زفرت بحنق مرددة:
"سؤالى عن تلك المسماة قمر. من الاحمق الذي سماها قمر إنها مخيفة كلما رأيتها يقشعر بدني"
شد قبضته واستشاط غضبا ليرد واكزا على أسنانه: "علا! لا تثيري أعصابي "
ردت بضيق متعجبة:
"ماذا؟ لمَ تدافع عنها؟ من تكون؟ منذ متى تحضر الجدة الغرباء لقصرها وأنت توافق على ذلك؟ اين ذهب خوفك من مرضها؟ ألم تفكر في جدتك أو أنا أو ليان أو أنت لا سمح الله نصاب بعدوى؟ ألم تنظر في وجهها؟ ها لم أنت صامت مذبهل؟ أم أنك تستطلف هذا النوع من النساء ولم تجربه."
بلغ ذورة غضبه منفجرا في وجهها بصراخه الذي افقدها النطق لبرهة مردفا :
"علا اخرجي من هنا هيا إلى البيت لا أريد أن أراك اليوم".
اتسعت عيونها وردت مذهولة:
"تطردني؟"
أشار بيده لباب الفندق قائلا بغضب:
"هل هو امر غريب او جديد؟ هيا قلت اذهبي"
نظرته بغضب جامح وانسحبت من أمامه تحاول إخفاء غضبها حتى لا يزداد الأمر سوءًا ،
لتردف علا في نفسها بضيق:
"يجب أن تتمالكى أعصابك حتى لا تخسريه، فإن خسرتي يونس ستخسرين متابعينك ومستقبلك ".
______
جلست قمر بهدوء بجانب ميثال كالشاردة بذهنها وعيناها غارقتان في حزن دفين. مدت يدها بلطف لتضعها على يد ميثال مردفة :
" أنا هنا إذا كنتِ بحاجة للتحدث "
تنهدت ميثال بعمق ناظرة إلى قمر بعينين متعبتين تحمل أثقال العالم على كتفيها. متحدثة بصوت منخفض مليء بالأسى:
" تعبت. تعبت من قسوة بناتي عليّ. كنت أظن أنهن سكني وعوني، لكن الآن. أشعر أنني غريبة بينهن. وجودى عبء بالنسبة لهن"
نظرت لها قمر بتعاطف لا تجد من الكلمات ما تهون عليها به، فلا شئ يواسي قسوة الابن على والدته، أغمضت ميثال عينيها للحظة تعيد ترتيب أفكارها قبل أن تتحدث مردفة
" تغير كل شيء بعد وفاة والدهم. كنّا أسرة مترابطة لكن الآن لا أرى فيهن سوى الجفاء. يرفعن أصواتهن عليّ. لا يسمعنني. ولا حتى يسألن عن أحوالي. لا يشغلهم سوى بيع القصر. كيف يمكن لقلبي أن يتحمل هذا الجفاء؟"
استمعت قمر بصمت محاولةً أن تستوعب ما تمر به ميثال، مردفة برفق:
"ربما يمرون بفترة صعبة حقًا. ويحتاجون للمال كما أخبروكِ. ربما لا يعرفون كيف يعبرون عن حزنهم. أحيانًا الحزن يظهر على الانسان بطرق غريبة"
أومأت ميثال رأسها ببطء و الدموع بدأت تملأ عينيها مكملة
"كنت أظن ذلك في البداية يا قمر. كنت أقول لنفسي أعباء الحياة ثقيلة عليهن. يجب أن أتحمل... لكن الآن و بعد كل هذا الوقت. لم أعد أتحمل تلك النظرات الباردة، ولم أعد أستطيع احتمال الكلمات الجارحة. كيف يمكن لبناتي أن يتعاملن معي هكذا؟"
لم تعرف قمر ماذا تقول فالتزمت الصمت وهي تمسك بيد ميثال بقوة تحنو عليها محاولةً أن تشعرها بشئ يهون عليها ولو قليلا، ثم ردفت بصوت هادئ:
"أحيانًا، عندما يكون الناس قريبين منا جدًا، نؤذيهم دون أن ندرك. ربما لا يدركن أنهن يسببن لك كل هذا الألم. هل حاولتِ التحدث إليهن بهدوء دون جدال؟"
تنهدت ميثال مرة أخرى، ومسحت دموعها بظهر يدها
"حاولت يا قمر، لكنهن لا يسمعنني. كل واحدة مشغولة بحياتها و بمشاكلها، لا يريدن سماع ما لديّ. وكأنني أصبحت عبئًا عليهن أحيانًا أشعر أنني مجرد امرأة عجوز تحتاج للعناية ولست أمهن، لولا وجود يونس لبقيت وحيدة دون أحد، رغم انه ورث منهم القليل ولكنه يشبهني يدور ويدور و يأتي الى حضنى، مهما حاول مجاراتهم وحاول إقناع نفسه أنه سعيد بحياته ولكن عند نقطة معينة يقف ليمقت طريقة عيشه المزيفة ويأتى إلى هنا. إلى ملجأه."
ابتسمت قمر بحزن مردفة:
"انظري للجانب المشرق فربما وهبك الله إياه كي يكن سندًا عوضا عن البقية، أما بناتك فلابد أنهن سيعرفن قيمتك. ربما يحتجن وقتًا ليفهمن ما تشعرين به."
نظرت ميثال إلى قمر بعينين مثقلتين بالأسى، مردفة بصوت يكاد يكون هامسًا:
"أخاف أن يمر الوقت ولا يفهمن. أخاف أن أرحل وأنا أشعر بالغربة في بيتي وبين بناتي."
شعرت قمر بوجع كلمات ميثال، فأردفت:
"لن يحدث ذلك".
نظرت ميثال إلى قمر وارتسمت على وجهها ابتسامة صغيرة، لكن عينيها بقيتا مليئتين بالحزن
أردفت به
"شكراً لكِ يا قمر. وجودك يخفف عني الكثير حتى وإن لم يغير شيئًا مما في نفوس بناتى"
بينما كانا يتحدثا ظهرت على ميثال أعراض غريبة بدايتها صعوبة في التنفس. تلاها شحوبا في لون وجهها بجبين يتصبب عرقًا باردًا.
وضعت ميثال يدها على صدرها وكأن الهواء بات ثقيلًا عليها. شعرت بأن ما يحدث ليس مجرد إرهاق. ازدادت حدة الأعراض حين زاد على هذا شعور ميثال بألم مفاجئ في صدر يمتد نحو ذراعها الأيسر، مع إحساس بالدوار والضعف.
أدركت قمر خطورة الوضع مفسرة الأعراض على أنها بداية جلطة قلبية.
أسندت ميثال على الوسائد خلف ظهرها متسائلة:
"هل تشعرين بألم في صدرك؟"
لم تستطع ميثال الرد بوضوح
كررت قمر السؤال بوجه خاف كثيرا مما يراه
" هل تشعرين بألم في صدرك. ما بكِ هل تشعرين بضيق في التنفس ".....
#رواية_مَقْرَيْنُوس.
#ضي_القمر_وظلمات_يونس.
بقلم سميحة رجب
يتبع ..
إلى حين نشر فصل جديد يوم الخميس الساعة العاشرة مساءً، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة على المدونة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية..
استغفروا لعلها ساعة استجابة.