"إنها غيوم الحياة"
بقلم أمل محمد الكاشف
لا يمكننا الوقوف على الحافة، ونسمي سقوطنا قدر فالقدر لا يأتي إلا فجأه دون تدبير أو أخطاء نرتكبها، قد تكون خيانتك وخذلانك من جنس عملك وقد تكون من قدرك، إن كانت من يدك فأنت استحقيتها وإن كانت من قدرك فتأكد رغم قساوته إلا أنه يحمل بطياته الخير الكثير.
تفاجأ سراج بما سمعه لم يتوقع للحظة ان يأتيه ما يبحث عنه ويضربه بهذه القوة، انتظر ذهاب ضيفه ليخرج بعدها من الفندق ذاهبا لآخر مكان يتوقع أحد ذهابه إليه بهذه اللحظة، تفاجأ أمن الغرفة بوصوله في هذه الساعة المتأخرة، سمحوا له بالدخول بعد أن اعتادوا على حسنه وخيره بالإضافة لحالته الحزينة التي وصل بها.
فتح الباب ليدخل وأغلقه خلفه وهو ينظر ويدقق بوجه أمه النائمة مطولا.
عادت حياة لغرفة المعيشة بعد أن وضعت ابنتها النائمة بفراشها، جلست امام والدها وهي تنظر لصادق الذي تحرك وجلس بجانبها بوجهه الفرح الحنون متحدثا
"اشتقت إليكِ كيف حالك طمنيني عن ابنتك هل تسير أمورك بشكل جيد، من المؤكد أنكما اعتدتما على بعضكما، وكيف لا تعتادا لقد رأيت ذلك بأم عيني"
نظرت حياة نحوه محاولة رسم الابتسامة التي أبت أن ترسم من قلقها وتوترها، تحدث سالم ليقول
"مضت الأيام الثقيلة الشكر لله وحان موعد العيش بهدوء وسلام"
رد صادق بصوت علا من حماسه
" ان شاء الله يا أبي ان شاء الله "
أكمل سالم حديثه لابنته
"سيتزوج صادق بعد خمسة ايام بنهاية الشهر الجاري، تمنى ان يراكِ بين المدعوين، لا تقلقي ليسوا بكثر العروس وحيدة عائلتها ارملة مات زوجها بعد شهر من زفافهم وعادت لمنزل والديها دون احد بعد أن تبين عدم حملها من زوجها، ذهبنا و طلبناها لاخيكِ وتمت الموافقة قبل عدة ايام، لا داعي لتأخير زفافهم وخاصة انهم سيتزوجون بمنزلنا تعلمين أنا أتولى أمر رعاية رجل و امرأة مسنة وبهذا العمر أصبحت انا ايضا بحاجة لمن يرعاني ستأتي هي عروس لمنزلنا وتتولى أمرنا برضى منها والحمدلله"
نظر صادق لاخته
"ستحبينها حين تريها، هادئة ومسالمة مثلك تماما كما أنها ذات جمال وروح طيبة سترتاحين وتسعدين بمجرد رؤيتك لها"
تحدث الوالد لأبنائه
"دعوت الله أن يخلفكم خيرا عن ما رايتوه وعايشتوه بحياتكم، لا تحزنوا سيكرمكم الله من بعد الآن فهو المجيب الكريم"
نظر لحياة كي يخصها بالحديث قائلا
"حان الوقت لتأتي معنا لتبدئي حياتك من جديد، بحثت لكِ عن منزل بجوارنا يمكنك شراءه كي تعيشين به أنتِ وابنتك، ليطمئن قلبي عليكِ"
تدخل صادق ليقطع حديث أبيه بحماسه قائلا
" سنعود مثل السابق جميعنا بمكان واحد، يلعبون أطفالنا سويا، اذهب لإيصال ابنتك لمدرستها وأعود لأخذها واعيدها لحضنك من جديد"
اكمل اباها بصوت ملأه الحب والحنين
" نعم سنعيش حياة هادئة مستقيمة، ساعوضكم بها عن ما سبق، لن افرض عليكِ شيئا، ولن امنع عنكِ شيء، حتى ان لاحظتي بأول حديثي اخبرتك عن شراء منزل منفصل كي تكوني حرة أنتِ وابنتك، أردت أن اضعك تحت عيناي وبظل قلبي دون أن اجبرك على شيء، لتأتي وتقتربي منا لنكمل حياتنا وتعم السعادة على الجميع"
ردت حياة على أبيها
"جميل ما تقولون ولكنه صعب من بعد الآن، لقد اعتدنا على العيش باسطنبول كما أن آيلا اعتادت على مدرستها واصحابها ومعلمينها بجانب عملي في الشركة كما أخبرت صادق بآخر اتصال بيننا واملاك ابنتي وخلاف كل ذلك خطة العلاج التي تخضع لها آيلا بشكل ممنهج ومدروس من قبل فريق طبي متخصص لا يمكنني ايجاده بأي مكان آخر، كماااا...... "
قاطعها والدها
"لن تحتاج ابنتك للأطباء النفسيين ان وجدت حياة عائلية مليئة بالحب والدفئ"
صدق أخيها على حديث والدها منصدما بتغير نبرته وهو يكمل كلامه مع ابنته
" لن اسمح لكِ بالرفض القرار نهائي، رتبي أمورك وفق ذلك"
ردت حياة
"كيف قرار نهائي لا يمكن أمر كهذا يتم الحوار به.. "
لم تكمل حديثها حتى جاءها رد ابيها القوي
"القرار نهائي لا مجال للتفكير، يكفي كل ذلك الوقت دون احد بجانبك، ماذا تريدين أن يقول عنا الناس وانتِ تذهبين وتأتين مع رجل غريب بحجة انه عم ابنتك، ها اجبيني ألم نملأ عيونك.. كيف سنتحمل شعور أن عرضنا.... "
اوقفه صادق بنبرة تحذيرية قلقه
"اهدئ يا أبي اختي لم تمانع بخير كهذا"
لم ينصت سالم لابنه أكمل قوله
"أين قضيتي يومك، اجيبيني، أين ومع من، هل كان معك، هل تريدين لي أن اصمت على التصاقه بكِ دون وجه حق، صحافة، عمل، خروجات، ماذا تريدين ان انتظر اكثر من ذلك. هل انتقاله للعيش معك بهوية العم"
بكت حياة ليعود صادق لمحاولة اصمات والده الذي خرج عن صمته وهو يقول
"أنا لن أسمح لابنتي ان تعيش حياة كهذه، أنتِ تغضبين الله دون معرفة منك، حدثتك بالسابق انني لا احب تلك الأمور، طلبت منكِ ان لا تعملي معه بنفس المكان وأن تقللي التواصل بينكم، حتى ساقولها بصراحة انا لا اريد احد من هذه العائلة بيننا، الأصل غلاب وسيعيد ما فعلته عائلته، اسمعي كلام والدك كما سمعت كلام جدك داود من قبل، النبت السيء سيظل سيء طول حياته وإن أراد التغيير، نحن لا نعلم ان كان والده يعمل بعمل نازلي أم لا، بالاخير هو ابن تلك العائلة هو تربية تلك المرأة التي سرقت روحك و دمرتنا جميعا"
عاد صادق بقلق يترجى أبيه أن يصمت أمام بكاء ابنته ليكمل سالم آخر كلماته
" انا لن اقبل بوجوده بمحيطك انهي أعمالك وأنهي هذه الشراكة وعودي معنا هذا كل شيء"
صمت وخرج من غرفة المعيشة متجها للحمام وهو يشمر اكمامه.
أسرعت حياة بخروجها نحو غرفتها قبل أن يجلس صادق بجانبها ليهون عليها.
اقترب سراج بجلسته من فراش أمه وهو يحدثها
"كانوا يعلمون بوجودي، يعلمون بحالي، لا أصدق ما قاله لي، يعترف بشرعية نسبي ويتبرأ منها لأجل زواج أمي من خارج نسلهم، أنتِ تعلمين ذلك، أخبرني خالي بمعرفة الجميع لما حدث"
ضحك بسخرية
"هل تصدقين أنه أتى ليخبرني بامكانية استعادة نسبي من جهة أمي دون أن أعلن ذلك للصحف أو الأصدقاء استعيدها على الورق فقط، حتى أنه أعطاني أوراق رسمية تثبت نسبي وتعيدني لعائلتهم بأول جلسات المحكمة فقط ليبرأ ذمته وضميره ويقول لي كي لا يعذبني الله"
سقطت دمعة من عينه وهو يحدثها بصوت مسموع
"أنتِ من راعاني وكبرني وتحملني دون أن يشعرني بثقل او ضيق، لم أشعر بفرق بيني وبين أخي قط، كنتِ دوما خلفنا تدافعين عنا بكل ما أوتيتي من قوة، حتى وجودك هنا وحالتك هذه بسبب خوفك ودفاعك عني"
بكى متلعثم بألمه
"القيتِ بنفسك أمام الرصاص لأجل حمايتي، أنتِ كنتِ بهذا الأداء دائما، لم ولن أصدق حقيقة إنكِ لستِ أمي كما لم أستطع تصديق ما ألقيتِ بنا داخله دون تفكير، كيف هنَّا عليكِ يا أمي، كيف هان عليكِ أخي لتدخليه بطريق نهايته معلومة، كيف لم تفكري بما نحن به الآن"
اقترب اكثر ليحتضنها ويضع راسه على صدرها وهو يشهق ببكائه
"مات أخي وحُرمت ابنته منه كما حرمت انا منكِ، مات أركان يا أمي بسبب عدم تحمله عقوبة ما فعلتموه بالناس، مات ليموت بداخلي الاحساس والحكمة والعقل والتفكير وكل شيء، مات وذهب ليتركني وحدي احارب بهذه الحياة، ألم تشفقي علينا، ألم تشفقي على حالنا، هل لي أن ابكي واحزن بحضنك ام أهرب وابتعد، هل لي أن أسامح عمري ام اهرب منه، كل المفاهيم تداخلت بعقلي أصبحت افعل الشيء وضده بنفس الوقت، أشعر أنني تائه داخلي، ماذا كان سيحدث ان اكتفيتي بأموالنا واملاكنا، ماذا كان سيحدث ان اكتفيتي بحبنا لكِ وترابطنا"
مسح دموعه لينظر لوجهها الباكي قائلا
"هل تعلمين ماذا كان سيحدث.. كنا لا زلنا في منزلنا، كانت سما لا زالت حية ترزق، كنت ساتزوج من معلمة ابنة أخي التي لم ترى بحياتها ظلم كالذي ظلمتيه أنتِ لها، كنا سنجتمع على مائدة العشاء بفرح، نخرج للتجول عبر البلدان دون هم او حزن فقط نفرح ونحن نكبر أبنائنا سويا"
استقام بجلسته من جديد محاولا الكف عن البكاء خوفا من استياء حالتها قائلا
" كلما نظرت لدموعك اتسائل عن ذلك الوجه الذي أحببته هل كان قناع للخير أو الشر، الحنان ام الجحود، الحب ام الكره، الصدق أم الكذب، لا يمكن أن تكوني جمعتي بين الاثنين، لا يمكن للإنسان أن يجمع بين شتان متضادان مستحيل، سأفقد عقلي اقسم انني سافقد عقلي"
عاد ليلقي بنفسه في حضنها كما كان يفعل بصغره كلما ضاق وحزن يركض نحوها ليشعر بالراحة، عاد لبكائه وشتاته وهو يعتب عليها تركهم واقحامهم في هذا الطريق.
لم تتحمل نازلي هذا الشتات والحزن والقهر الذي به، تأثرت حتى تحركت أناملها مستجيبة لرغبتها باحتضانه واستسماحه، كان الموت أهون عليها من رؤيته بهذه الحالة، بل أصبح اهون عليها حين ترى اهتمامه بها ومتابعته للأطباء كي يطمئن على حالتها، انقسم فؤادها فهي حق لم تراه غريبا عنها ولم تفرق بينه وبين فلذة كبدها، اغمضت عينيها بقوة تمزق لها قلبها حين سمعت اسم أركان يتكرر أمامها متذكرة كم كانت تصفعه وتضغط عليه ليسايرها بأعمالها المظلمة، انهار سراج لتنهار هي أيضا متمنية الموت كأقصى أحلامها.
ظل يبكي بحضنها كالطفل حتى ناما على وضعهما، مر الليل بقسوته لتشرق الشمس معلنة عن مجيء يوم جديد، حرك سراج رأسه منتبها لحالته تحرك ليستقيم على مقعده ومن ثم يقف ليهرب لفندقه، وقبل خروجه من الباب استدار لينظر نحوها مطولاً ثم اكمل سيره حتى صعد سيارته ماسحا وجهه بيديه باحثا بعدها عن هاتفه بجيوبه ليجده باحدهم أخرجه وفتحه متفقد الرسائل وسجل الاتصالات منتبهاً لوصول أحدى وعشرون رسالة من حياة، أسرع بفتحهم بقلق ليقرأ ما دار بينها وبين عائلتها، اغلقه بصمت كبير فهذا ما كان ينقصه حقاً لينهي آخر أمل لديه فهو يعلم موقف والدها منه و وضعه بخانة امه واخيه.
اكمل قيادته الحزينة الهادئة حتى وصل للفندق وصعد لغرفته ثم فراشه دون تبديل ملابسه ليكتب لها ما حدث معه هو أيضا.
استيقظت على صوت رنين الرسائل المتتالية خفضت الصوت بسرعة وفتحته لتنصدم بما كتبه، علقت على احد رسائله كاتبة
"ما هذا الجفاء هل قال لك ستعيد نسبك دون أن تقترب منا"
كتب لها بحزن...
"هل تصدقين أن أمي رفضت عودتي لنسبي بهذا الشكل كي لا اتشتت واضيع، كان يخبرني وكأنه يحدث جماد أمامه، يقول لي جدك لم يرغب بك، ونحن أيضا لا نريدك بيننا، حرمك جدك من الميراث فلا تجهد نفسك بأمور لا جدوى لها، لا زلت لا أصدق النبرة التي حدثني بها، وكأني نكره، وكأني لستُ صاحب إملاك وعقارات وشهادة جامعية كبيرة ومقدم برامج مشهور، انا لم اشاهد شخص بهذا الجحود والسوء من قبل"
شاركته حزنه برسالتها
" اشكر الله انك لم ترى هذا النوع من قبل، فأنا اعلم جيدا معنى أن تعاشر هذه النوعية من البشر وتعتاد وتجبر على رؤيتها اليومية وليس بيدك حل سوى تحملهم، ما رأيته أمس جزء بسيط من النماذج التي احاطتني منذ صغري"
تنهد بحزن وهو يسألها كاتبا
" ماذا ستفعلين مع والدك؟"
مدت فمها وهي تكتب بحزنها
" لا اعرف"
جلس على الفراش متصلا بها لتفتح سريعا قبل أن يخرج صوت هاتفها للخارج.
حدثها فور اجابتها
" ماذا يعني لا أعرف، هل ستذهبين معه"
ردت عليه بسرعة رفضها
" لا ليس لهذه الدرجة، ولكنه غاضب ويتحدث بقوة وشدة، كما انه محق ببعض ما قال، هل اطلب منه أن يأتي هو ليسكن بجواري ام.... "
غضب مخرجا كل ضيقه وألمه بكلماته
"لا تجعليني افقد عقلي، ألم نتفق على الزواج، لنسرع بزواجنا كي لا يعذب نفسه بالخوف عليكِ"
ردت بصوت منخفض
"وهل سيقبل زواجنا"
أجاب على سؤالها بسؤال
" وهل سننتظر موافقته، أم أنكِ... "
قاطعته بقوة
"لا لم أعد عن موافقتي، و لن اذهب معه رغم معرفتي باحقيته بهذا ولكنهم أصبحوا غرباء عني، لا يمكنني أن أأمن نفسي وابنتي بجانبهم"
" وماذا عني.... "
قالها سراج بصوت حزين مكلوم منتظر صدمته الذي اعتاد أن لا يتلقى غيرها بالاونة الأخيرة.
ردت عليه باستحياء لتطمئنه
"ألم تخبرني ببدء إجراءات معاملة الزواج من اليوم، فليعودوا هم على أمل اللقاء بزفاف صادق، ونحن نتم ما اتفقنا على إتمامه ونتصل لنعلمهم بذلك"
سعد قلبه أخيرا بما قالته اغلقت سريعا بمجرد سماعها لصوت ابيها بالخارج، ثم رفعت الغطاء عليها لتكمل نومها بجانب ابنتها.
دخل سالم على ابنه المطبخ
"صباح الخير، ماذا تفعل، لم يستيقظوا بعد"
رد صادق بفرح
" ذهبت واشتريت مخبوزات ساخنة، كما أنني حضرت لها المقالي المحببة لها"
اقترب سالم وجلس على الطاولة وهو يأكل قطع الخيار، اقترب صادق وجلس بجانبه ناظرا نحو الباب قائلا
"أبي لا تضغط عليها يكفي أن تحضر حفل زفافي وشيئا فشيئا ينصلح الحال وتطلب هي البقاء بجوارنا، لا اريد خسارتها من جديد يكفي انها تتحدث معنا وتستقبلنا بمنزلها"
عقد سالم حاجبيه متحدثا بضيق
"ما بك وكأنها تحسن إلينا باستقبالها وكلامها، لن أتركها خلفي ستأتي وتبقى تحت عيني لن اتركها لذلك الاسطنبولي يكفي ما رأته وعايشته، ستاتي لتعيش معنا ونصلح ما بيننا حتى نصل لصلحها مع مصطفى، علينا أن نقنعها بتوبته وندمه عن ما فعله معها لتسامحه وتتنازل عن حقها حتى لتعين له محامي من محامين الشركة الذين أخبرنا عن مهارتهم وخبرتهم في هذه القضايا ليخرج هو أيضا ونعيش جميعا حياة عائلية هادئة"
رد صادق
" أخشى أن تحزن منا مجددا"
غضب أباه عليه
" منذ متى أصبحت كالنساء تخاف وتخشى، فلتحزن عدة ايام ومن بعدها تعتاد على الحياة هناك هذا أفضل لها ولابنتها"
استيقظت آيلا طالبة الذهاب للحمام لتضطر حياة بالخروج من الغرفة والإعلان عن استيقاظها، فرح صادق وبدأ يهتم بها و بصغيرتها.
اجلسها على الطاولة وبدأ بسكب الشاي لها والحليب لابنتها وهو يحدثهم بسعادة كبيرة، للحظة شعرت حياة بحنانه وطيبة قلبه التي كانت تشعر بها في الصغر.
تناولوا فطورهم لينتهي سالم منه قبلهم متكأ بظهره للوراء وهو يقول
"سنذهب نحن بعد قليل، لدينا الكثير والكثير من الأعمال هناك، وانتِ رتبي أمورك وسننتظرك على موعد الزفاف لنعلم لاين وصلتي وكيف دبرتي أمر أعمالك مع عم ابنتك"
أومأت برأسها قائلة
"الانتقال أمر ليس بهين، بجانب ترتيب أمور العمل ومدرسة ابنتي وجميع ما يخصها، ولكني سأصل لوضع نهائي حتى موعد الزفاف ان شاء الله "
فرح صادق وتحرك على مقعده
" هل ستأتين لزفافي"
نظر أباه له بازدراء
" ما بك وكأنك تتوسل مجيئها، بالطبع ستأتي، هل ستغيب عنك بيوم كهذا"
نظرت حياة لوالدها ثم نظرت لصادق قائلة
" اعدك ان أتي لا تقلق "
قالتها وصمتت بحزنها الكبير مما هي به، لم تكن تتوقع ان يأتي يوم تتزوج به دون علم عائلتها، فرغم كثرة ما ابتليت به وسوء جميع من حولها إلا انها كانت تبادر بالخير والحب والتنازل من أجل عائلتها، تحملت طفولة سوداء لم يتخللها سوى البكاء والصراخ والفقر والضرب والقسوة، تمنت بفقدانها لبصرها أن تعيش بهدوء دون أبيها الذي كان بمثابة الوحش لها، توالت وانهالت عليها المصائب والابتلاءات وتكالبت عليها الضباع حتى أصبحت تصارع وتجابه الجميع، تعثرت، سقطت، عافرت، جاهدت، حتى استعادت القليل من حقوقها، وبينما هي في طريق الشفاء والمعافاة يطلبونها أن تترك كل شيء وتعود لتبدأ من الصفر، لتبدأ حياة غير مضمونة مع أناس لم ترى منهم إلا كل شر، تألمت وحزنت مما وصلت إليه فكان من المفترض ان تلجأ لهم تستشيرهم وتحاورهم بشريك حياتها ولكنها أجبرت على إلتزام الصمت كي لا يصيبوها بشر جديد، كل همها ان لا تظلم او تعيش ابنتها ما عايشته هي بطفولتها.
ودعت عائلتها بهذه المشاعر الحزينة التي غرقت بها طوال اليوم حتى انتهى اليوم وأتى صباح الاثنين بمجيء سراج لها كي يصطحبها لدائرة معاملة الزواج، ظلت صامتة طوال الطريق حتى اوصلا آيلا للمدرسة قائلة لها
"سأنهي بعض الأعمال مع عمك وأعود إليكِ"
سألتها ابنتها "هل ستتأخرين"
اجابتها "لا تقلقي لن اتأخر بإذن الله هيا اذهبي لفصلك"
لوحت لها لتودعها عائدة للسيارة كي تصعد بها.
تحدث لها فور إغلاق الباب
"علينا أن نعلمها بأمر عملك في الشركة"
اجابته مؤكدة على حديثه
"نعم وهذا ما قاله الطبيب كنت سأخبرها بالعطلة ولكني أجلته بعد زيارة أبي المفاجأة والقرار الذي اتخذناه مؤخرا"
بدأ قيادته مكمل حديثه
" خير ما فعلتي لنخبرها سوياً بعد الزفاف"
ظل يحدثها عن فرحته بجمع شملهم واستيقاظه كل يوم وهو معهم حتى وصلوا للمكان.
نظرت نحوه متحدثة بقلقها
" هل يمكننا أن نتفق على عدة أشياء قبل البدأ بالمعاملة"
أومأ برأسه "أكيد تفضلي انا اسمعك هل طرأ جديد"
اجابته بخجل
" لا لم يطرأ أي جديد ولكني... "
صمتت قليلا وهي تنظر حولها لا تعرف كيف ستتحدث ومن أين ستبدأ، ترقب بدأ حديثها الذي أتاه بقولها
" تعلم ما مررنا به وما اضطررنا على سرعة القيام به، يعني ان كان الوضع طبيعي ما انجبرنا على سرعة هذا الإجراء، ما اريد قوله... "
صمتت من جديد لتزيد من قلقه وترقبه، ابتلعت ريقها و استجمعت نفسها لتقول
"بصراحة انا لست مستعدة لهذه الخطوة، احتاج إليها وانا راضية عنها، ولكني غير مستعدة ان.. يعني لو كان الوضع طبيعي كنت طلبت فترة خطوبة، أو على الأقل عدة أسابيع اهيأ نفسي وحالي للانتقال وبدأ حياة جديدة"
جاء ليحدثها ولكنها قاطعته بسرعة كلامها
"اعلم أنني فعلتها من قبل وتزوجت في غضون أيام من رجل لا أعرفه، ولكن حينها كان وضعي مختلف، وكأني... وكأني دون روح او احساس او أي شيء، كان لا فرق لدي بين حياتي لدى أهلي او لدى زوجي، بالأصل جاءت موافقتي لأجل الهروب من سجن عائلتي وتحقيق حلمي الذي وعدني أركان به"
اجابها بحزن
" ومن أين جئتي بهذا الحديث الان، انا لم افكر او اقارن هذا بذاك"
اكملت بتوتر
" لأن ما أشعر به الآن مختلف وأخشى أن لا تفهم علي ويختلط عليك الأمر وتعتقد اني... "
قاطعها بقوله "انتظري سأقول لكِ ما فهمته العروس غير مهيئة للذهاب لمنزل عريسها، كما انها تريد أن تتدلل عليه قليلا أليس كذلك"
ابتسمت على خجل
" لا ليس تدلل"
ابتهج وجهه لرؤية ابتسامتها
"لكِ ما تريدين لتصبحي زوجتي أمام الدولة أولا ومن ثم نرى تدللك وتهيئك، لا تقلقي لن اضغط عليكِ بأي شيء حتى وإن طلبتي مشاركتي بفراشي من اول يوم سأسمح لكِ واتنازل عن الجهة اليسرى منه، ما رأي.."
خجلت آكثر ليكمل
"امزح معك وايضا هل نحن صغار كي نختلف على هذه الأمور بالاخير سنتشاجر ونتعارك ونغضب ونتصالح ونتفق شئنا أم أبينا لا تقلقي فأنتِ بأيد أمينة"
ابتسمت دون رفع عينها بعينه قائلة
" بشرك الله بالخير اطمئن قلبي الآن"
تحرك لينزل من السيارة و يصطحبها لدخول مبنى دائرة العدل
"ألم أقل لكِ لا تخافي ليطمئن قلبك على الأخير، حتى أنني شاهدت بالأمس فيلم أعتقدت باول الامر انه رومانسي وهذا من شدة إصرار يزن على مشاهدتي له"
ضحك وهو يكمل
" لا تصدقي ماذا فعل الزوج والزوجة ببعضهم بأول ليلة من زواجهم"
اتسعت عينيها ليضحك هو قائلا
" لا تقلقي لم أخبرك الآن عليكِ أن تشاهديه بنفسك كي تعلمي ما فعلوه"
اشتدت خجلا ليشتد هو ضحكا قائلا
"لا انتظري لا داعي لمشاهدتك له.. فأنا لا اسمح لكِ بالتقليد، ليكن ارتجالي لعله يأتي أقل مما فعلوه، يعني من العيب ان نقضي بالمشفى أول ليلة سعيدة بحياتنا الجديدة"
تحدثت باستغراب
"المشفى!"
ضحك أكثر وهو يقول
"ألم تسمعي المثل الرائج من الحب ما يقتل اعتقد انهم كادوا أن ينفذوا هذا المثل.. الشكر لله تدخل أحد الجيران قبل أن تلقي إبريق الماء برأس زوجها، اتسائل كثيرا عن مفهوم الحب والرومانسية لدى يزن ونجلاء"
سألته بفضول
" هل علم يزن بقراري... "
رد سريعا
"لا. لا يعلم أحد بوضعنا هذا، بالأصل جاء سريعا ككل ما مررنا به"
وقفت على الباب الداخلي وهي تنظر له بخوف
"هل أنت متأكد مما سنفعله"
اوما براسه ناظرا لها بعمق
"نعم متأكد بدرجة لم اصل لها من قبل قط"
تحرك ليدخل قبلها بحماس وفرح، أجروا المعاملة وتم تحديد يوم الاثنين القادم موعدا للمثول أمام ممثل دائرة العدل كي يتم إتمام عقد الزفاف.
تفاجأت حياة بقرب الموعد وعدم وجود يوم غيره قبل موعد زفاف صادق، نظرت له قائلة "ولكنه قريب جدا"
خرجا سويًا وهو يبتسم بوجهها قائلا بصوت منخفض
"بل بعيد كثيرا، تمنيت أن يكون اليوم او الغد حتى استمتع بالاجواء التي رأيتها بذلك الفيلم"
ابتسما بوجه بعضهما وخرجا ليصعدا السيارة ، بدأ القيادة وهو يتساءل
"هل نذهب لأحد المطاعم لنتناول الفطور"
ردت عليه بوجهها المضيء
"ولكني تناولت فطوري مع آيلا"
ابتسم بخبث وقال
"حسنا لا عليكِ لاكتفي بتناول الكيك المحبب بجانب القهوة"
نظرت له بقوة جعلته يضحك بصوت عالي واضعا يده على فمه والأخرى تشير لها "وكأني أرى عيون العروس وهي تركض خلف عريسها"
ضحك وجهها على كثرة ضحكه وما يقوله، كانت بداية مبهجة سعيدة بسعادة فرحته بقرب تحقيق حلمه.
اخبرته انها لا تريد ارتداء فستان او القيام باي احتفال ليكتفوا بالذهاب لدائرة العدل لكي يتموا الأمر وبعدها يذهبون لوالدها كي يخبروه بأنفسهم ومن ثم ينتظرون عدة أسابيع او شهور حتى يعتادوا على بعضهم ويقيموا حفل صغير ومن ثم يجتمعوا بمنزل واحد.
وافقها سريعا على طلبها دون معارضة لدرجة ادهشتها منه، مر الاسبوع بسرعة كبيرة حتى جاء الموعد المرتقب، جاءها صباح الاثنين ليصطحبها لدائرة العدل كما اتفقا، خرجت هي وابنتها على عجل متسائلة "ما الداعي لهذه السرعة لا زالت الساعة الثامنة صباحا"
انطلق بسيارته فور اغلاقهم للابواب قائلا
"تأخرنا كثيرا على موعدنا"
تفاجأت حياة بوصولهم للمنتجع السياحي وقبل أن تسأله طلب منها ان تؤجل حديثها لعدة دقائق، اخذ وردته وتقدم بها نحو الداخل لتسير خلفهم وهي تتأمل المكان حولهم.
لمعت عينيها وابتسم وجهها برؤية فستان ابيض يفوق احلامها وخيالها بجماله وبريقه، ركضت ايلا نحو فستانها المعلق بجانب فستان امها وهي تقول بفرح
"وهذا لي" اجابها عمها وهو يقترب منها ليقبل وجهها بفرح "بالطبع لكِ"
نظرت حياة نحوه ليجيبها قبل أن تتحدث
"أتمنى أن يعجبك اختياري"
سألته باستحياء
"على ماذا اتفقنا نحن"
اجابها بقوة وثقة
"ألم أقل لكِ كما تشائين"
ونظر للفستان
"أليس كما تشائين"
دمعت عينيها وهي تنظر لابنتها الفرحة بفستانها الأبيض ثم نظرت للفستان الكبير قائلة
"بل أكثر مما حلمت وشئت"
تحرك ليخرج من الغرفة وهو يقول
"هيا ارتديا سريعا كي لا نتأخر"
وصل للباب ثم استدار ليحذرهم
"لا تتشاجرا لا نريد أن نفضح أمام العاملين"
ضحكا ليخرج ويغلق الباب من خلفه ذاهبا للغرفة المجاورة لهم وهو يتحدث على الهاتف
''حسنا افعلوا ما تروه مناسبًا، لا اريد شيء ناقص أو على غير المنتظر منكم"
اسرع بارتدائه لطقمه الأسود وهو بقمة سعادته، سمعت حياة صوت مزامير ودفوف تقرع خارج غرفتها.
ازدادت فرحا وابتهاجا قائلة لابنتها وهي تغلق سحاب فستانها الأبيض الصغير
"انظري ماذا يفعل عمك بنا"
وضعت آيلا تاج رأسها المزين بالورود البيضاء بفرح، ساعدتها أمها بتثبيته لتتفاجئ بابنتها تلقي بنفسها في حضنها وهي تهتز وتقفز من فرحتها.
ضمتها بقوة ادمعت عينيها مقبلة رأسها
"هل انتِ فرحة بزواج أمك من عمك لهذه الدرجة"
كانت تجيبها بهز رأسها داخل حضنها لتزيد من فرحتها وبهجتها قائلة لها
"يكفيني هذه الفرحة لاتحدى بها عالمي واقداري"
ردت ابنتها عليها بعد أن خرجت قليلا من حضنها كي تنظر لوجهها
"انتِ أجمل عروس بالدنيا"
ضمتها أكثر لقلبها
"يا عمري ودنياي بل انتِ أجمل وردة رأيتها بحياتي"
طرق الباب لتسرع آيلا بفرحتها لتفتح الباب لعمها فمن غيره سيأتي لهم.
تفاجأت آيلا بقدوم نجلاء واصدقاء والدتها، فرحت حين رأت معلمتها بينهم.
دارت أمامها لتريها الفستان ضمتها وقبلتها "جميل جدا"
اقتربت نجلاء من صديقتها لتحتضنها بوجهها الشاحب وارهاقها الكبير، فرحت حياة بوجودها وضعت يدها على بطنها قائلة "طمنيني عليه"
ابتسمت نجلاء "لا تقلقي عليه هو بخير، عليكِ ان تسألي علي ألم تري ما انا به"
ضحك الجميع مؤكد لنجلاء انه أجمل ألم وتعب سيجلب لها قطعة من قلبها.
تحركت وجلست جانبا بعد أن ارغمها دوران رأسها وتقلبات معدتها على هذا، فلولا قدر صديقتها لديها ما كانت خرجت من منزلها بهذه الأيام الأولى من الحمل.
و بحماس كبير كان سراج يدور بالصالة الخارجية بخطوات اقدامه العابثة يميناً و يساراً، لم تتوقف يده عن مسح عرق جبينه و رقبته الذي تهاطل عليه من شدة فرحته و حماسه بل وتوتره من لحظة انتظار اطلالتها عليه بالابيض.
تأخرت بالخروج ليزيد هذا من حرارة جسده حرك يده ليحرر رقبته قليلا من ربطة عنقه التي أحكمها صديقه يزن بشكل جميل، نظر للمرة المليون على طقمه الرسمي ليتأكد ان كل شيء كما رسم و حلم به لعدة سنوات.
مرت الدقائق عليه كالساعات الجميع من خلفه ينتظر تلك اللحظة و هم يفتحون كاميراتهم لتوثيقها، خرجت فتاة شابة بفستان أزرق تسير بفرحة كبيرة تشبه خطواتها بخطوات رقصات طفل فاز بمسابقة كبيرة لتقول بصوتها المليئة بالفرح والحب
" العروس قادمة"
توتر اكثر و اكثر حتى كادت يده ان تخنق الورود البيضاء الجميلة من شدة قبضته عليهم دون انتباه منه.
اقترب صديقه ليسحب يده من أعلى الورود وهو يقول له
" ماذا تفعل ألم يقل لك احدهم ان باقة العروس من اهم طقوس الفرح"
فتح سراج قبضة يده ليحنوا ويحسن من وردات باقتها البيضاء كبياض قلبها المحب، وبهذه اللحظة خرجت العروس وبيدها وردتها الصغيرة ليصدروا الشباب صفرات فرح عالية، صفق البنات بشدة وهم يخرجوا صوت
" ووووووووو اااااااااااا "
رفع نظره لينبهر بجمال إطلالتها بالابيض اخذ نفس عميق بوجهه الفرح واعينه التي أصبحت كسحابة غائمة محملة بامواج الفرح.
تحرك ليقترب منها قائلا بصوت منخفض
"هل حضرت الملائكة لتشاركنا فرحتنا يا ترى"
خجلت من كلماته لتعلو صوت الدفوف والمزامير والمباركين لهم.
حدثها "هيا لنبدأ أولى خطواتنا بعشنا السعيد"
تحركا بجانب بعضهما لينزلا الدرج وايلا أمامهم والاصدقاء من خلفهم.
فرحت بحالة القاعة المزينة بأجواء فرحتهم، اقتربا من طاولة العرس ليبداوا مراسم عقد الزواج واعلانهم زوج وزوجة.
اخذت حياة الدفتر الاحمر من كاتب العدل ناظرة له ثم رفعته قليلا نحو اصدقائها بفرح.
اقترب منها ليمسك يدها، ارتعدت القلوب بمجرد لمس الايادي لبعضهما رفعها سراج للأعلى قليلا ليقبلها
"مبارك علينا"
خجلت من حالته مبتعدة عنه كي لا يتمادى ويقبلها حتى وان كان من جبهتها فقط.
سألته بصوت تدلل عليه
"متى فعلت كل ذلك ولماذا لم تخبرني"
نظر لها نظرات دهشة مجيبا عليها
"ألم أقل لكِ كما تشائين"
وبصوتها الذي كان يطرق بقلبه قبل أذنه قالت له "سراج"
اقترب منجذبا نحوها بسحر بجمال صوتها المدلل ناسيا الجمع من حوله
"أؤمري يا قلب وعين و روح سراج"
تراجعت للوراء خطوات وهي تحذره بعينها "الجميع ينظر نحونا"
اقترب من جديد قائلا
"فلينظروا بقيت انظر للعروسين طوال هذه السنوات وانا انتظر هذه اللحظة"
حاوطها بيديه ليقبل جبهتها بقلب عاشق هيمان ببحور محبوبته واضعًا بها ما أكننه بقلبه منذ اللحظة الأولى من لقائهم المقدر، اغمضت عينيها بجسدها المرتجف من شدة خجلها، انفصلا عن دنياهم حتى صمتت الأصوات وفرغ المكان واصبحا بعالم اخر لا أحد غيرهما به.
يتبع ..
إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.