recent
جديدنا

مقرينوس الفصل الرابع والعشرين

Wisso

     

          رواية مقرينوس 

           ضي القمر وظلمات يونس


يلف الظلام أروقة القصر بعباءته الثقيلة، رغم أن كل زاوية بدت ليونس مألوفة لكن شيء غريب يتسلل عبر الهواء. صمت عميق كصدى بعيد وكأن الجدران ذاتها تراقب خطواتهما بعيون خفية. حتى الأنفاس بدت ثقيلة. محبوسة في هذا الفراغ الساحر المليء بالرهبة. لاحت الأعمدة الحجرية المغطاة بطبقة من الغبار تشهد على قصص قديمة طواها النسيان، بينما ارتعشت ألسنة لهب المصابيح الخافتة كأنها تنازع السكون الداهم.



همست قمر وهي تنظر حولها بحذر: 

"أشعر وكأننا نتلاشى بين الزمنين…"


توقف يونس للحظة وأشار إلى نهاية الممر: 

" لنذهب الر السرداب هناك سنجد الإجابات في المكان الذي بدأ فيه كل شيء."


اتجه الاثنان بهدوء نحو الغرفة التي تخفي مدخل السرداب. كانت الصناديق والأثاث القديم مكدسة فوق بعضها، وكأن القصر نفسه يحاول إغلاق الباب على أسراره. بدأ يونس بإزاحة الأغراض الثقيلة، بينما كانت قمر تراقب الغرفة بحذر.


_"هناك شيء غريب هنا..."

قالت قمر وهي تشير إلى مرآة معلقة على الجدار. اقتربت بخطوات مترددة لترى انعكاسها، لكنها لم تجد صورتها المعتادة. بدت أكبر سنًا، عيناها تحملان حكمة غامضة وندبة رفيعة تقطع خدها، ندبة لم تكن موجودة من قبل.


_"يونس... انظر!"

نادته بصوت يملؤه الذعر، وهي تبتعد قليلاً عن المرآة.


تقدم نحوها بقلق وعندما وقعت عيناه على انعكاسه، تجمد في مكانه. لم يكن يرى نفسه كما هو. ظهرت على وجهه تجاعيد لم يألفها، وعيناه اللتان كانتا مليئتين بالفضول تحولت إلى نافذتين لعمر أثقلته التجارب. بدا أكبر بكثير وندبة مماثلة لتلك التي رأتها قمر امتدت على جبينه.


تمتم بصوت بالكاد يُسمع، لكنه لم يكن بحاجة لإجابة. انعكاسهما في المرآة كان كافياً ليخبرهما أن الزمن هنا لا يتبع القوانين التي يعرفانها: 

"ما هذا...؟"


هتفت قمر وهي تمسك بذراعه، لكن قبل أن تتحرك، لاحظت ظلالاً تتلوى خلفهما في المرآة، كأنها تراقبهما بصبر قاتل: 

"يونس، يجب أن نرحل!"


أردف يونس وهو يدفع باب السرداب المخفي خلف الصناديق القديمة، قلبه ينبض بقوة، كأن الزمن نفسه يحثهما على الهروب: 

"لا وقت للتردد! يجب أن نسرع"



دخلا السرداب بخطوات مترددة. ليجداه كما كان من قبل يضج بالجدران المليئة بالنقوش والرموز. يقفا أمام باب مقرينوس، على يمينهما بابين كل باب يحمل نقشًا مختلفًا.


تقدمت قمر نحو الأبواب تتأملها بعمق:

"هذا الباب يحمل شعار سرمد. وهذا الباب الذى سلكناه معًا لنصل إلى إشراق"


اقترب يونس من الباب الثالث. النقش عليه عبارة عن رموز متداخلة، تتوهج بشكل خافت مع اقترابه. لمس الباب بحذر، ليشعر بنبض تحت يده، كأن الباب كائنًا حيًا.


تأملت قمر الرموز، ثم همست:

" بعد تقدم العمر في هذا الزمن لا أعرف ان كنا سنجد اشراق على نفس حالتها مثلنا أم ستكون هرمت كبقية أهل المملكة، ان وجدناها على حالتها الشابة ستكون المفتاح لفهم كل هذا."



قبل أن يتخذا أي خطوة، اهتزت الأرض تحت قدميهما، وانبعث صوت عميق كأنه صادر من أعماق القصر نفسه. فجأة، اهتز الكتاب الذي كان معهما بعنف، كما لو أنه كائن حي يحاول الإفلات.


هتفت قمر: 

"يونس، الكتاب!"


انفتح الكتاب فجأة، وبدأت صفحاته تتقلب بعشوائية بسرعة جنونية، كأن الريح تعصف بها رغم أن الهواء كان ساكنًا من حولهما. توقفت الحركة فجأة على صفحة بعينها، ونبع منها ضوء باهر أغرق المكان.


ظهرت على الصفحة كلمات غامضة بدأت تتشكل، وكأنها تُكتب أمام أعينهما: 

"اختياركم ليس سهلًا. كل باب يحمل مسارًا لا يمكن تغييره. لكن الطريق الثالث... هو أخطرها. ليس لأنه يؤدي إلى بيت إشراق فقط، بل لأنه يختبر كل ما تؤمنون به."


حبست قمر أنفاسها، لكنها لم تستطع منع نفسها من الهمس:

"إشراق... هل هي هناك؟ هل يمكنها مساعدتنا؟"


لم يجبها أحد، لكن الضوء المنبعث من الكتاب بدأ يتحرك، لينعكس على الجدران المحيطة. النقوش الحجرية بدأت تتحرك كأنها أحياء، تتحول تدريجيًا إلى مشاهد حية أمام أعينهما.


رأيا إشراق تقف وسط ضباب كثيف، تحمل بين يديها كتابًا يشبه تمامًا الكتاب الذي كان معهما. نظرتها كانت غامضة، لكنها حادة كأنها تخاطبهما عبر ستار الزمن.


قال يونس بحزم:

"إذا كان هذا هو السبيل للوصول إليها، فعلينا المضي قدمًا."


أومأت قمر وهي تضع يدها فوق يده على المقبض. بمجرد أن ضغطا عليه معًا، انطلق وميض ذهبي من الباب، وفتح ليكشف عن ممر مختلف تمامًا.


اصطدما بأن الطريق مختلف تماما عما سلكوه من قبل كانت الجدران شفافة، تعكس صورًا متحركة لأحداث بدت وكأنها تنتمي لعصور مختلفة. تمثلت أمامهما رؤى خاطفة: ميثال تتحدث مع إشراق، قمر تجلس في مكان لم تره من قبل، ويونس يقف في معركة لا يتذكرها.


أردفت قمر بذهول:

"هذا ليس ممرًا عاديًا... إنه يعرض ما كان وما يمكن أن يكون."


عندما عبرا الممر، وجدا نفسيهما في مكان يشبه الحلم. السماء تحت الأرض، والأرض مغطاة ببحر من السحب المتوهجة. على بعد مسافة طويلة ظهرت أضواء بعيدة تبدو وكأنها قرية صغيرة.


قال يونس:

"هذا المكان... يبدو كأنه عالم بين الأزمنة."


قبل أن يتحركا خطوة زيادة. ظهرت أمامهما إشراق، لكن مظهرها مختلفًا. كانت تبدو وكأنها فقدت نفسها، لم تتقدم بالعمر ولكن عيناها أصبحتا مليئتين بالحزن، لكنها مدت يدها نحوهما وقالت:

"لقد تأخرتم... لكن لا يزال هناك أمل. اتبعوني."



سارت أمامهما بخطوات بطيئة، وكأنها تتحرك عبر ضباب كثيف يحيط بكل شيء. بدا المكان غريبًا، حيث الأرض تتغير مع كل خطوة مرة صخرية ومرة مغطاة بالعشب الناعم وأحيانًا كأنها مكونة من ضوء ناعم ينبض بالحياة.


سأل يونس بحذر وهو يراقب إشراق عن كثب:

"إشراق، هل هذا حقًا أنتِ؟"


توقفت للحظة والتفتت نحوهما. كانت عيناها فارغتين تقريبًا، لكنها بدت متأملة:

"أنا لست ما كنتما تعرفانه، ولست ما أصبحتُه الآن. أنا جزء مما كان وما سيكون. لكن إن أردتما الوصول إلى الحقيقة، علينا أن نتحرك بسرعة. هذا المكان لا يرحم من يطيل البقاء فيه."


بعد دقائق طويلة من السير في صمت، وصلوا إلى أضواء القرية التي رأوها من بعيد. تبدو مهجورة، ولكن رغم ذلك هناك علامات على وجود حياة. النوافذ مفتوحة، وأصوات خافتة تتردد في الهواء، كأنها همسات أو أناشيد قديمة.


همست قمر وهي تراقب كل شيء بحذر:

"هذا المكان... أشعر وكأنني كنت هنا من قبل."


أشارت إشراق إلى بناء صغير في وسط القرية، بدا وكأنه مكتبة قديمة أو مزار مقدس:

"هذا هو المكان الذي نحتاج إليه. ستجدان فيه ما يجيب عن أسئلتكما، لكنه قد يحمل أيضًا أسئلة جديدة."



دخل الثلاثة إلى المبنى. تنبعث منه رائحة الكتب القديمة والبرد الرطب. الجدران مغطاة بالرفوف المليئة بكتب تبدو وكأنها مكتوبة بلغات مختلفة، بعضها غير مألوف تمامًا.


 في وسط الغرفة هناك طاولة حجرية تحمل كتابًا واحدًا فقط، محاطًا بهالة من الضوء الأزرق.


تقدمت قمر نحو الكتاب بحذر، لكنها شعرت بيد إشراق تمسك بذراعها تحذرها:

"لا تلمسيه بعد. هذا الكتاب ليس مجرد كلمات، إنه بوابة."


شعر يونس بالارتباك:

"بوابة إلى ماذا؟"


أجابت إشراق بصوت منخفض:

"بوابة إلى اللحظة التي بدأ فيها كل شيء. لكن لا يمكن لأي شخص فتحه. يحتاج إلى روحين مرتبطتين عبر الزمن، وإلى قربان خاص."



تراجعت قمر خطوة، وهي تسأل بخوف:

"ما نوع القربان الذي يحتاجه؟"


أشارت إشراق إلى يونس وقمر، ثم إلى الكتاب.

"شيء يحمل جزءًا من روحكما. شيء يعكس علاقتكما بهذا العالم. يونس، أنت تملك شيئًا لم تفهم قيمته بعد."


تذكر يونس ساعته القديمة التي حملها معه منذ بداية هذه الرحلة. كانت ساعة صغيرة أعطتها له جدته. رفعها نحو إشراق قائلا:

"هل هذا يكفي؟"


ابتسمت بهدوء مردفة:

"أكثر مما يكفي. ضعها على الكتاب، ولكن كونا مستعدين. ما سترونه سيغير كل شيء."



عندما وضع يونس الساعة على الكتاب، بدأ الضوء الأزرق يتوهج بشدة. اهتزت الأرض تحت أقدامهم، وفتحت صفحات الكتاب نفسها بسرعة، لتكشف عن مشاهد تتحرك كأنها شاشات عرض.


رأوا منيفة تتحدث مع بومتها مرام:

"إنه الوقت يا مرام. أنتِ الوحيدة التي يمكنها حماية السر. لكن تذكري إن عبر الزمن إلى الحاضر، فلن يعود هناك طريق للرجوع."


ثم تغير المشهد إلى قمر ويونس، يقفان معًا في مكان يشبه هذا المكان، لكنهما بديا مختلفين، أقوى وأكثر تصميمًا.


همست قمر:

"ما هذا؟ هل هذا ماضٍ أم مستقبل؟"


أجابت إشراق:

"هذا هو الخيار الذي سيُطلب منكما اتخاذه قريبًا. إما إنقاذ مقرينوس، أو حماية العالم الذي أتيتما منه."



فجأة، انغلق الكتاب بقوة، وعاد الصمت إلى المكان. اختفت إشراق أمام أعينهما، ولكن كلماتها الأخيرة بقيت تتردد في الهواء:

"عندما يحين الوقت، لن يكون هناك مفر. تذكرا ما تفعلانه هنا سيحدد مصير كل شيء."


نظر يونس إلى قمر، التي بدت عليها الحيرة والخوف، وقال:

"علينا العودة إلى القصر. لدينا الكثير لفهمه... وقليل جدًا من الوقت."



ولكن قبل أن يتحركا شعر بنبض الكتاب وكأنه يريد أن يخبرهما بشئ جديد: 

"بدأ الزمان يتلاعب بمقرينوس،لم يعد القصر مكانًا ثابتًا في عالمنا، بل نقطة عبور بين الماضي والمستقبل. هنا، الزمن لا يسير بخط مستقيم، بل يلتف حول نفسه، يتشظى.يتوقف ليهمس بأسرار قديمة، ثم يندفع فجأة ليرسم ملامح مستقبل مجهول.


الجدران تتنفس كأنها كائن حي، تحمل في أحجارها همسات أرواح مضت وأحلام لم تولد بعد. الأرضية التي تحت الأقدام ليست سوى مرآة تعكس ما كان وما سيكون، بينما السماء تبدو كسطح ماء مضطرب، تلتقط فيه شمسين تتصارعان على السيادة.


في مقرينوس أصبح للزمن إرادة تتحدى المنطق وتعيد تشكيل الواقع. كل باب يحمل وعدًا أو تهديدًا، وكل خطوة قد تكون عودة للماضي أو قفزة نحو المجهول. هنا. لا شيء ثابت. حتى الهوية تتغير. تتلاشى. ثم تعود بشكل جديد.


إنها مكان يختبر اليقين يزعزع الثقة بما هو مألوف، ويطرح سؤالًا واحدًا:

 ماذا لو كان الزمن عدوًا وصديقًا في آنٍ واحد؟


في مقرينوس الزمن ليس عدواً عادياً، بل سيد المكان وروحه. يعيد تشكيل الملامح. يسرق الأعمار ويمنحها من جديد في صورة لا يتوقعها أحد. يُظهر الوجوه بطرق مختلفة، كأنه يريد تذكيرك بأنك لست ما كنت عليه، ولن تكون ما أنت عليه الآن بعد لحظة.


هنا، الماضي لا يرحل، والمستقبل لا ينتظر. تتشابك الأزمنة كخيوط عنكبوت، وكل خيط يقود إلى مسار مليء بالغموض والأسئلة. في هذا المكان، كل قرار هو مفتاح، وكل مفتاح يفتح بابًا نحو اختبار جديد.


مقرينوس ليست مجرد مملكة؛ إنها نبض الزمن نفسه، تهمس للقلوب الجريئة ويختبرها. هل تمتلك الشجاعة لتخطو نحو المجهول؟ هل ستصمد أمام صدى أفعال قديمة أو تواجه انعكاسًا لمستقبل تخشاه؟


في هذا المكان، لا أحد يعود كما كان. الزمن يترك بصمته على الأرواح، كما يترك الأمواج بصمتها على الصخور. وكل من يجرؤ على دخول مقرينوس، يصبح جزءًا من حكايته التي لا تنتهي."


يتطلعان بالكتاب محاولين استيعاب الكلمات الغامضة التي بدت وكأنها تخاطبهما مباشرة، كأنها تحمل أكثر من مجرد رسالة، بل إنذارًا يتسلل إلى أعماق روحيهما. مررا نظراتهما بين الكتاب الذي في أيديهما والكتاب الذي يستقر على الطاولة، بينما انعكاس الضوء الغريب على جدران المكان يضفي على اللحظة إحساسًا بالرهبة.


_"اقترب الكتاب من الصفحات الأخيرة،"

 قالتها قمر بصوت مفعم بالقلق، عيناها تتابعان الصفحات التي كانت تتحرك ببطء، كأنها تودع ما تبقى من زمنهما:

"يجب أن نسرع، فإن انتهى ونحن هنا، يستحيل أن نجد ميثال... ولن نتمكن من العودة إلى حاضرنا."


أغمض يونس عينيه للحظة، يحاول السيطرة على الأفكار المتشابكة في ذهنه. ثم فتحهما على تصميم لم يكن قد شعرت به قمر من قبل. نظر إليها قائلا:

"إذن لا خيار لدينا. مهما كان ما ينتظرنا، علينا التحرك الآن."


اقتربا من الباب الذي يشع بضوء غريب، يملأ المكان بشعور مختلط بين الأمل والخوف. أمسك يونس بمقبض الباب، وشعر ببرودته تسري في جسده كتيار صاعق، لكنه لم يتراجع. التفت إلى قمر وقال:

"معًا، مهما حدث."


أومأت قمر بصمت، عيناها تحملان مزيجًا من الخوف والشجاعة. ومع أول دفعة للباب، انبعثت ريح قوية سحبت كل ما حولهما إلى فراغ مظلم. اختفى الكتاب من الطاولة، واختفى الضوء ولم يبقَ سوى صدى الباب وهو يغلق خلفهما بعنف، تاركًا القصر في ظلامه القديم.


كانت تلك اللحظة نقطة تحول، لحظة اختلط فيها الغموض بالأمل، تاركة خلفها أبوابًا موصدة بأسئلة بلا أجوبة، ومسارًا مجهولًا يمتد بين طيات الزمن.



يتبع…. 

لحين نشر الفصل الجديد يوم الاثنين القادم ان شاء الله .

لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.

google-playkhamsatmostaqltradent