recent
جديدنا

الليالي المظلمة الفصل الاول

Wisso

         رواية الليالي المظلمة  


                                بقلم أمل محمد الكاشف


                           


إذا ألقَى الزَّمَانُ عَليكَ شَرّا وصَارَ العَيشُ فِي دُنياكَ مُرّا

فَلا تَجزَعْ لِحَالِكَ بَل تَذَكّركَم امضَيتَ في الخَيراتِ عُمرا

واِن ضَاقَت عَليكَ الارضُ يَوماً وبِتَّ تَأنُّ من دُنياكَ قَهرا تذكر أن للكَون ربً ما ابكاكَ إلّا لِتَعلَم ان بَعد العُسر يُسرا

                                       عبدالغفور عبدالله (شاعر يمني)

في بعض الأحيان 

قد تمر بك أقدار صعبة ، مؤلمة ، 

وقد تكون طويلة ، 

قد تبكي أو تتألم أو تشعر باختناق ، 

تيقن أنك إن رضيت عوضك الله 

ﻻ تفكر في ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺍﻟﻔﺮﺝ

ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﺇﺫﺍ ﺃﺭﺍﺩ ﺷﻴﺌﺎً 

ﻫﻴّﺄ له ﺃﺳﺒﺎﺑﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻻ ﻳﺨﻄﺮ ﻋﻠﻰ البال

     

انارت السماء ببرقها ورعدها في يوم شديد البرودة وسط نهار لم تخرج به الشمس، أسرع المارة بسيرهم تحت شلالات المطر الغزيرة ليصلوا إلى وجهتهم أو مكان يحتمون به.


هرولت سيلين لتدخل بوابة البناية مصطدمة برجل آتٍ بنفس السرعة من وجهة عكسية مما أدى لها لاصطدامها القوي به، فزعت ورجفت لقربها من جنس الرجال، نظرت نحوه بعيون متسعة واقدام عجزت عن الحركة من شدة خوفها

أعتذر الرجل ذو الهيئة الغريبة بعدة كلمات معاكسة تماماً لمظهره الخارجي قائلاً 

"عفوا لم انتبه بهذه الأجواء اعتذر منكِ كثيرا.  هل تأذيتِ؟"


تعجب من ثبات عيونها وحالتها ليكمل حديثه بقلق "أأنتِ بخير؟" 


ظلت صامتة أمامه بجسدها المرتجف حتى اقترب منها بهيئته الغريبة كي ينظر ويتأكد إنها بخير.


لم يتوقع ولو للحظة أنه بمجرد قربه ستنفجر بصراخها وابتعادها هاربة داخل البناية. مهروله على الدرج بسرعة من يركض خلفه شر،  استغرب من حالتها نظر للسماء إذ بها انارت قليلا بعد أن انقشعت غيومها وهدأ تهاطل المطر منها. اكمل سيره ليدخل نفس البناية متوقفًا باول طابق ناظرًا للاعلى متذكرًا حالة الفتاة، راقب الأرجاء ليتأكد  من خلو المكان ثم فتح باب المنزل المجاور له ليدخل بهدوء مغلق الباب خلفه.

تورد وجهه بمجرد نظره لارجاء المنزل قائلا 

"كعادتك لا شيء مرتب من يرى منزلك يستغرب كثيرا كيف لشخص مثلك ان يكون ضابط شرطة، وكأنك شخصين بشخص واحد"

 ابتسم بفرح وهو يشاهد صور ابنة باريش على حائط الصالون..


جلس على الأريكة يفرد يديه  ورجليه على مصراعيها ليستمتع بالراحة. لم يكتفي بذلك تحرك و رفع ارجلة ليستلقي عليها طمعا بالراحة..


لم يلبث كثيراً بنومته المريحة حتى فُتح باب المنزل ودخل باريش بوجهه الضاحك قائلا 

"المعلم حسن إذا؟"

علت ضحكته 

"فاجأتني بهذا الوجه الجديد. ولكنِ اهنئك عليه يا له طراز سبعيني مميز"

صمت ليكمل ضحكة

نظر لحالته وشكله الجديد قائلا لباريش بنبرة توعود

"سأخرج حساب هذا ايضا منك انتظر"

رد باريش بحب 

"دعك من ذلك وقل لي كيف نجحت بايصال سوالف شعرك بالقرب من رقبتك، عليك ان تعطيني سر الخلطة السحريه بتطويل وغزارة الشعر"

نظر حسن نحوه نظرة قوية جعلت باريش يكف عن الضحك وهو يقترب ليجلس بجانبه 

متسائلا 

"هل كل شيء على ما يرام"

وبرضا وعيون متأثرة اجابه حسن

"نعم الحمدالله ولكنِ أسرعت بالخروج حين اتصلت أنت وأخبرتني بوجوب خروجي"

أومأ باريش برأسه 

"جيد. هيا إذا لنعود"

تحركا بجانب بعضهما فتح باريش الباب ليخرجا الذي نظر حسن ذو الهيئه الغريبة على الباب المقابل له بحزن مغمض عينه مجبر على الذهاب والإبتعاد.

فهم باريش همه وضع  يده على كتفه قائلا "تبقى القليل لا تحزن"

تحرك المعلم حسن خلفه وهو يردد بحزن وضيق 

"لا تحزن تبقى القليل من جديد"

              

ابدلت سيلين ملابسها وادت فرضها وتجهزت لتنزل للطابق الأول حيث تمكث سيدة كبيرة مريضة تتولى هي وباريش رعايتها حين أخبرها بحالتها وحاجتها للمساعدة.

فكان هو سند وعون لهذه المرأة التي أرغمتها الحياة على المكوث وحدها بظروف غريبة لازالت غامضة.

 وضعت حجابها واغلقته على رأسها وخرجت من منزلها لاذهب كي تعطيها الدواء وتطعمها.

وفور دخولها من الباب شعرت سيلين بتغير في المكان المنشفة بغير مكانها، الطاولة التي تركتها خلفها لتأخرها عن موعدها قد أُغلقت و وضعت جانبا.

راقبت ترتيب الغرفة بصمت متوقعه احتمالية عودة باريش في منتصف اليوم وقيامه بالتنظيف على غير عادته.

اسرعت بتسخين الطعام وايقاظ السيدة أمينة لتناوله.

مر اليوم شيء فشيء حتى أسدل الليل ستاره وساد الظلام ليعم السكون على المنطقة، وهنا بدأت رحلة عذابها الليلي داخل غرفتها وعلى فراشها بهذه الوحدة القاتلة تعارك ما تراه امامها بتحريك وجهها المتعرق وروحها التي تسحب منها بسبب شدة خوفها مرددة  بأصوات همهمة لا يُفهم منها شيئاً، زادت ظُلمتها واختناقها حتى جلست على فراشها بجسدها المرتجف تحدق بعيونها حولها تحاول ان تصدق انه كان كابوس وأنه مجرد حلم ثقيل وذهب لحال سبيله.

تراجعت سيلين بجلستها للخلف ضامه أرجلها لصدرها ممسكة بغطائها المرفوع حتى أسفل أعينها المذعورة التي تنظر لباب الغرفة المغلق بالمفتاح من قبلتها بخوف شديد وكأن أحدا ما سيدخل عليها.

               

في مركز الشرطة وبهذه الساعة المتأخرة ذهب باريش لغرفة الحجز كي يودع صديقه يوسف بيرقدار فتح الباب مقتربا منه وهو يقول 

 "سأخرج أنا الآن. هل تريد مني شيء؟، أأجلب لك المعجنات أو الحلوى معي بالصباح أم ستكتفي بما أشتريته أمس؟"


رد يوسف بحزن 

 "شكراً لك يكفي ما فعلته من أجلي اليوم"

تأمل باريش حزنه متسائلا  

"لماذا كل هذا الحزن، ألم تراها وتطمئن عليها"

تحدث يوسف بصوت مختنق 

"لا أوصيك عليها.."

قاطعة صديقة 

"قلت لك سابقاً لا حاجة لي بتوصيتك هي أمي أنا أيضا، لا تكررها مرة أخرى وأيضا كما قلت لك عليك أن تخرج من هذه الحالة، أعلم أن الأمر  قد طال كثيرا ولكن اقتربت النهاية، اعدك انه لن يطول سأفعل اكثر من ذلك سأفعل قصار جهدي لتخرج قريباً"


وبوجهه الذي بدى عليه الحزن هز يوسف رأسه مبتسماً إبتسامة ضعيفة كادت ان لا تظهر من شدة حزنه وهو يقول  

"لا عليك سأكون بخير".

خرج باريش من غرفة الحجز ليضع يوسف رأسه على قضبان السجن بحزن شديد متذكرا حياته السابقة كيف كان و إلى أين وصل به الحال.

تذكر زوجته وهي  تحدثه بآخر لقاء بينهم..

 "أعتذر منك لا أستطيع.."

تذكر ردة فعله وهو يعاتبها بعد علمه بإجهاضها لطفله….

"كيف فعلتي هذا به؟ ولماذا لم تشاركيني بقرارك. لا افهم كيف استطعتِ التفريط بطفلنا بهذه السهولة؟"

وبحزن سمع صوتها يطرق أذنه وهي  تبرر له….

"لا يمكنني إنجاب طفل آخر بوسط تلك الظروف. وايضا كيف سانجبه وأنا لا أستطيع أن أكمل حياتي معك"

أغمض عينيه غارقا باحلامه الثقيله وهو يراها بجانب الراجل تسهر وتضحك بطريقه غير لائقة، أتاه بحلمه مشهد راوده كثيرا وهو يراها تعطي الأوراق لخصمه كي يلف حبال الغدر والكسر والهزيمة حول عنقه.

فتح عينيه بسرعة رافضا هذا المشهد مؤكد لنفسه استحالة بيع هوليا له عن عمد.

              


عاد باريش للبناية الخاصة بمنزله توجه كعادته نحو منزل السيدة أمينة وعقله  شارد بسيلين حزين من نفسه بعد أن نسى الاتصال والاطمئنان بعد أن فشلت مجددا بإيجاد عملا لها.


نظر نحو أمينة على الفراش ليجدها على حالها نائمة بلا حول ولاقوة منها، رفع عليها الغطاء بشكل أفضل وهو يحدثها

 "أمي أمينة. أمي أمينة"  

لم تسمعه لعمق نومها تركها وتحرك متوجها نحو المطبخ  ليفتح البراد كي يطمئن أنه لا يوجد نقص، نظر لقدر الطعام بوجه مبتسم محدث قلبه…

 "أنتِ لا تقصرين أبدا" 

أخرجه من البراد وبدأ يأكل وهو ينظر للأعلى نحو منزلها بسعادة كبيرة

مكمل انفسه.. 

"لا أحد يستطيع أن يُحضر الفاصوليا البيضاء كما تُحضرينها أنتِ" 

وبينما هي تصارع خوفها بالاعلى كان هو يغمض عينيه مستمتعا بجمال الطعم أكثر.. 

"ماذا افعل بكِ؟ من جديد لم أستطع مقاومة طعامها" 

               

مضى الليل بكل ما يحمل من خوف تكرار مأساة الماضي. وحزن من خذلان وبيع. ومرض ممن لا حول ولا قوة لهم إلا الاستسلام لحالتهم. وسعادة عاشها باريش وهو يتذوق طعام من ملكت فكره واهتمامه فهذه هي الأقدار لا أحد  متساوي دائماً.

أشرقت شمس يوم جديد…

كانت سيلين بجوار السيدة أمينة تمسح وجهها ويديها بمنشفة مبللة تضعها بطبق به ماء دافئ ومن ثم تعصرها لتخرج الماء منها كي تنظف وتهذب من حالة تلك المريضة الوحيدة على حد علمها.

اجلستها على الفراش واضعة الوسائد خلفها دون ان تتلقى اي ردة فعل منها بعد أن استسلمت امينة لحالتها ومرضها النفسي قبل العضوي. 

تحدثت سيلين معها وهي تخبرها عن ما يحدث بالخارج وآخر الأخبار كي تهون عليها حالتها و وحدتها، وببعض الأوقات كانت تنسى نفسها وتحدثها عن طفولتها وعائلتها بتحفظ شديد. 

أنهت سيلين عملها وتوجهت للمطبخ لتبدأ بتحضير الفطور ووضعته على الطاولة بجانب الفراش.

رن جرس الباب توجهت نحوه وهي تحدث نفسها.. 

"لا يمكنه أن يتأخر عن موعده اليومي حتى يمكننا ضبط الساعة عليه"

فتحت الباب ليبتسم الضابط باريش قائلا "أتمنى أن لا أكون تأخرت على الفطور" 

تبتسمت  بوجهها الأحمر الخجول وعينيها الغير ثابتة وهي تهز رأسها 

"أنتَ لا تتأخر بمواعيدك، حتى يمكننا ضبط الساعة على قدومك"

فرح باريش قائلا 

"ولكنها التاسعة والربع. لدي تأخير ربع ساعة كاملة"

دخل المنزل وهو يخلع حذائه على عتبته الداخلية مرتديا خف عوضًا عنه....


تحركت لتسير أمامه متوجهين نحو الغرفة الوحيدة بالمنزل، اقترب باريش من أمينة مقبل يديها ملقي عليها الصباح.

تبسم وجه أمينة رغم صعوبة ظهور التعابير عليه اثر تعرضها لأقدار ثقيلة جعلتها طريحة الفراش دون حركة أو صوت. لم يكن جديد عليها عدم الحركة فهي قعيدة على كرسي متحرك منذ زمن بعيد ولكنها كانت قوية ذات حكم وعلم الجميع يسعى لإرضائها اما لحبها او خشية من غضبها.


فرح باريش بابتسامتها النادر رؤيتها، جلس بجانبها وهو ينظر نحو سيلين التي كانت تتحدث أثناء خروجها من الغرفة  

"تبقى الشاي سأجلبه وأتي على الفور"

اسرع بحديثه المتواري مع امينة

"أعلم أنه السبب في هذه البهجة"

عادت سيلين دون تأخير لتجده يتحدث بصوت منخفض كعادته جلست بمكانها  دون تدخل بحديثهم الغير مسموع، اخفضت نظرها وبدأت بسكب الشاي في الكؤوس وهي تجيبه لتطمئنه على نسب الضغط والسكر.

ابتسم باريش لأمينة قائلا

 "يا لسعادتنا من الجميل سماع هذه الأخبار الجيدة، هل عزمتي على الشفاء ونحن لا نعلم"..


بدأا بتناول طعامهم وهم يهتمون بإطعام أمينة طعامها الخاص بها.

وقفت سيلين فجأة وهي تقول 

" ااااا، لقد نسيته بالفرن"

ضحك باريش وهو ينظر لركضها قائلاً بصوت مرتفع أراد أن يصل لها بالخارج

 "من يرى وجهك يعتقد انها اول مرة" قالها وضحك بفرحة كبيرة.

اجابته من المطبخ 

"ولكنه لم يحترق هذه المرة لقد سيطرنا على الوضع دون إصابات"

لم يستمع لها فصوتها المنخفض الخجول ظل يحوم حولها فقط.

عادت إليهم بعدما ان قطعت فطائر الجبن و وضعتها بطبق كبير، أخذ قطعة منه وهو يقربه من أنفه 

 قائلاً "رائحته كالمسك" 

اخفضت وجهها القرمزي من شدة خجلها 

ابتلع ما في فمه ثم ارتشف  بعده أواخر ما تبقى من كأسه قائلا 

 "بالأمس اتصل بي العم محسن زوج خالتك كي يطمئن عليكِ، وأبلغني أن أرسل لكِ السلام وأخبارك بقرب مجيئهم لرؤيتك والاطمئنان عليكِ هم و والدتك"

تغيرت ملامحها بشكل كلي فور سماعها للاسم، ابتلعت ما بفمها بصعوبة وارتباك ظهر عليها بشكل واضح.

وعلى حذر وترقب سألها 

"هل أنتِ بخير؟ هل حدثت مشكلة؟"

ظلت على صمتها لا ترد ولا تحرك نظرها الثاقب وكأنها سكنت تماماً، من يرى حالتها يشعر وكأنها تائهة بمغارة الرعب، ظل يراقب حالتها ممتنعا عن الكلام ناظرا ليدها المرتجفة وعينيها المذعورة و توترها وخوفها.

قرر أن يحدثها كي لا تزداد سوءا ناداها مرتين دون أن تسمعه وكأنها انتقلت لعالم مختلف.

توتر هو أيضا وقلق حيال وضعها تحرك ببطئ ليضع يده على كتفها مناديا بهدوء دون أن يعلم او يتوقع ردة فعلها القوية حين صرخت وتحركت بفزع لتصيح  بوجهه 

"لا تقترب مني"

ظلت تتراجع للوراء حتى صُدم ظهرها بالحائط الخلفي.

 لم يصدق باريش ما يراه أمامه راقب وضعها وهو يحاول فهم ما هي به، رفع يديه الاثنين لأعلى قائلا  

"لا يوجد شيء، فعلتها لأجل الاطمئنان عليكِ. بقيتِ صامتة و قلقت لهذا اردت فقط"


و أخيراً بدأت سيلين التقاط أنفاسها محاولة السيطرة على حالتها أمامهم.

كانت تنظر نحوهم وكأنها الآن رأتهم. بدأت تتحرك شيء فشيء لتخرج من الغرفة بصمت وخجل وجسد لا يعلم بحاله إلا الله.

ذهبت للمطبخ ليعود هو ويجلس بجانب أمينة قائلا بصوت منخفض

 "كنت أشك بالأمر ولكنِ تأكدت الآن، هناك أمر كبير قد وقع. من المؤكد أن لديها مشكلة مع أهلها… نعم مع اهلها فكلما سمعت بهم تغيرت و…."

صمت باريش للحظة تحدث بعدها 

"ولكن هذه الحالة لا تكون إلا.... إلا....."

اتسعت عينيه بما طرأ على عقله متسائلا "هل العم محسن هو من…"

صمت باريش من جديد ناظرا لحزن أمينة على وضع تلك الفتاة الحنونة. 


(مع الاسف كان باريش صادق بتفكيره فهذه الحالة لا يمكن أن تكون إلا بسبب وحش متجرد من الإنسانية، وحش كنقار الخشب الذي فرح بالإطار الخشبي الثمين ليمارس فيه هوايته دون ان يعي انه شوهه و افسد جمال الإطار لأجل.....)

نظر للساعة ثم وقف بحزنه قائلا  

"سأذهب لأراها ومن بعدها أخرج للعمل"

انحنى وقبل يدها مكملاً

 "دعواتك لنا يأمي"

بقيت امينة وحدها على الفراش تنظر للامام بوجهها الحزين فرغم عدم معرفتها بسلين منذ زمن بعيد ستة اشهر او يزيد قليلا على الاغلب الا أنها ارتبطت بها بشكل كبير نظرا لطيبتها ومعاملتها الكريمة معها، نزلت دمعة من عينيها حين تذكرت سيلين وهي تلقي بنفسها في حضنها وتبكي، كانت تعلم أن هناك همٌّ كبير بداخلها وظاهر بعينيها  منذ أشهر دون أن تعلم سببه لحرص سيلين عن إقصاء عائلتها و بلدتها من حديثها فقط تتبادل معها الاحاديث عن الاخبار العامة والدراسة والعمل وكل جديد بالبلد والمنطقة.

 تحرك باريش وذهب للمطبخ ليجدها   تشرب الماء بصعوبة..

من جديد فاجأته بحالة عينيها و سقوط الكأس من يدها المرتجفة.

تحدثت معتذرة منه بعدة كلمات لم يفهمها من سرعتها وانخفاض نبرتها…

تمالكت نفسها لتبرير ما حدث

"عندما كنت آكل.... يعني كنت جائعة كثيراً، لأجل جوعي كنت شاردة"


ظل يراقب حركاتها وكلامها وارتباكها حتى الماء الساقط على حجابها وملابسها، تحرك وهو ينظر للساعة بيده قائلاً 

"نكمل حديثنا بوقت آخر. لقد تأخرت على عملي"

فكر بكيفية تهوين الامر عليها تحرك خطوتين للخارج استدار بعدهم لينظر لها قائلا 

"ولكن عليكِ أن تأكلي جيدا حتى تشبعي كي لا تتوقف قلوبنا بسبب جوعك"

تركها وأكمل سيره وهو يضحك حتى أنه تحدث بصوت عالي قبل خروجه من الباب 

 "أتركِ لي من البريك لا تنهيها وحدك"

اغلق الباب لتعود ملامحه للحزن من جديد فهو شخص عاطفي يتأثر بمن حوله سريع الغضب والتسامح بنفس الوقت، خدوم محب للغناء والرسم ذو حركة ونشاط  عالي. من يراه لا يصدق أنه رجل شرطة نهائياً فهو والانضباط لا يتقابلان سوى بالعمل...

ومع ذلك فهو رجل شرطة قوي معروف بحدته في مجاله يخاف منه الجميع، كما يُعرف عنه عدم استسلامه بسهولة فعندما يستلم ملف قضية ما  لا يهدأ حتى ينهي أمرها على أفضل حال.

لذلك أصبح غير محبوب ومرغوب به في العالم المُعادي لعمله، كما كثر أعدائه بسبب نزاهته وعدم بيعه لضميره.


صعدت سيلين منزلها هاربة لغرفتها مغلقه بالمفتاح جالسه على فراشها بلسان قلبا يتلو بعض السور القصيرة من القرآن الكريم كما أوصتها خالتها بذلك. 

أخذت دفتر من جانبه و بدأت تكتب به

 "لا أعرف لماذا لازلت أرتجف عند سماع أخبارهم. افقد التحكم في نفسي كلما تطرقت لهم ولو بالحديث؟ هل كُتب عليٌَ أن أعيش تحت هذا العبء طوال حياتي؟"

أغلقت الدفتر و نامت على فراشها بعيون تنذرف منها دموع الحزن والأسى

           

علم باريش بطلب صديقه لرؤيته فور وصوله لعمله بمركز الشرطة، ذهب إليه على الفور ليراه بحالة سيئة.

وقف يوسف بيرقدار بمجرد رؤيته لباريش قائلا 

"أخرجني من هنا  لم اعد اتحمل اكثر من ذلك"

 اقترب منه قائلا

 "أعلم أن الأمر زاد عن الحد ولكنه لأجل سلامتك وسلامة عائلتك، أي خطأ ولو صغير سيكون تكلفته حياتك. أنتَ تعلم الأمر ليس بهين. وعدوك كبير وله أيادي بكل مكان حتى وصلت أعينهم لمحبسك. رأيت بالمرة السابقة كيف تلقيت رسالة ورقية وانت بحمايتنا فماذا أن خرجت حرا طليقا يفعلون بك ما يريدون. لهذا علينا أن نكون حذرين أكثر، حتى زوجتك و والدها تخلوا عنك. أعتذر ليس هذا فقط بل تم بيعك دون تفكير"


رد يوسف بحزنه وغضبه قائلا 

"لا أصدق كيف لا يوجد أي خطأ أو أثر لهم حتى الآن، ماذا إن لم يخطئوا؟ ماذا إن طال الأمر؟"


تحرك يوسف بداخل غرفة الاحتجاز ليقلل من غضبه عائدا مقتربًا من صديقه قائلا 

 "أوجد لي حلاً سريعًا يخلصني مما انا به، رجاءً افعل أي شيء. لقد اوفيت بوعودي لكم ونفذت كل ما طلبتموه مني، استغنيت وضحيت بكل شيء لأجلكم. إلى ولكن إلى هنا وحسب لا أستطيع أكثر من هذا"

صمت لوهلة ناظرا لأرجاء غرفة الاحتجاز مكملاً  

"أختنق. أقسم أنني سأموت خلف هذه القضبان من شدة اختناقي و نفاذ صبري"

وعده باريش أن يساعده بأقصى جهد حتى يخرجه مما هو به ولكن عليه ان يهدأ أولا كي لا يضيع جهدهم.

طال حديثهم الذي قُطع بوجوب خروج باريش لادارة عمله، انتهى يوم صعب مليئ بالأعمال عاد باريش لمنزله و هو مجهد ينظر للطابق الثاني من البناية بعقل يفكر بالصعود والاطمئنان على سيلين فمن جديد انشغل طوال اليوم دون الأتصال بها  تراجع عن الفكرة كي لا يزعجها. 

مرت عدة ايام آخرين منضمين إلى باقي الأيام والأشهر السابقة التي مرت على يوسف بالحجز وكأنها سنوات وخاصة بآخر ايام حتى أصبح لا يحتمل يوما إضافيا بين هذه القضبان وهذا ما جعله عصبي وغاضب طوال الوقت.

لم يكن الوضع بهذا الشكل في أمريكا حيث المنزل الكبير الفخم والثراء الوفير الذي تنعمت هوليا بخيره.

فها هي جالسة على احد مقاعد الصالون الفاخر تتحدث بهاتفها بضحك عالي بعد تحقيق حلمها بتحديد موعد المعرض الخاص برسوماتها الفنية.

تدخل والدها بدعوة العديد من الفنانين ذوي الشهرة والخبرة  للمشاركة بالمعرض وتعزيز أولى خطواتها.

وصلت لحلمها على حساب ابنتها التي لم تكمل من العمر عامها الثاني، كانت الطفلة ضحية شعور أمها أنها نتاج علاقة فاشلة. وهذا ما جعلها لا  تهتم بها لأمرها ورعايتها و تركتها تكبر بين أيادي المربيات الذين لم يؤدوا واجبهم بضمير كل اهتمامهم جني المال.

أهملت هوليا ابنتها ساعية خلف  الأضواء والظهور بالحفلات والسهرات مع خاصة الخاصة من الطبقة المخملية.

شعجتها أمها على ذلك فهي تشبهها كثيرا بحبها للسهر والحفلات الصاخبة وعدم تحملها لأي مسؤوليات تجاه عائلتها أو حفيدتها.

عكس والد هوليا المحب للصغيرة  ولكنه غير موجود طوال الوقت اما منشغل بسفره الكثير او النوم في خارج المنزل للاستمتاع بالليالي الحمراء.

ولأجل كل ذلك بقيت الطفلة وحيدة تصرخ طوال الليل مرددة بلسانها الصغير 

"م م م م … با با با"

دون ان تجد إجابة من أحد فحتى غرفة الطفلة تقع بالطابق الأول عكس غرفة والدتها وجدتها.

حدث ذلك بسبب كثرة بكائها وعدم تحمل أحد لصوتها طوال الليل ليتم اختيار زاوية بعيدة بالطابق الأول مكان جديد تسكن به هي ومربيتها التي تمتنع عن حملها او اطعامها تطبيقا لنظام التربية التي تعلمته بشكل قاسي فلا طعام ولا حركة من الفراش من بعد منتصف الليل دون رحمة. وأي رحمة ستأتي من الغريب والأم والأهل بهذه الحالة.

مع الأسف كُتب على قلبها الصغير البكاء والوحدة بهذا العمر، كان والدها يتجرع ألم فراقه عنها بصعوبة كبيرة يحلم بها ويراها كل يوم وهي نائمة بحضنه يغني لها كما كان يفعل بأول شهورها.


بالصباح و في منزل السيدة أمينة اهتمت سيلين بترتيب المطبخ بعد رفع الفطور، أتاها باريش بعد أن ودع امينه ليشكرها على الشاي متمنيا لها يوما هادئا.

اوقفته لتخبره بخروجها اليوم كي تقدم أوراقها بأكثر من مكان في رحلة بحثها على وظيفة مناسبة.


رد عليها  قائلا 

"لا زال عرضي قائم، أنتِ تستحقين مقابل ما تفعليه من أجلها، لم اعطيكِ من محفظتي كما اخبرتك لدى السيدة أمينة مال يكفيها لتوفير العلاج والسكن ومن يرعاها أيضا" 

عادت لترفض عرضه قائلة له من جديد

 "أشعر وكأنها أمً  لي لا يمكنني أخذ مقابل ما أفعله. ليكافئنا الله عنها هذا أفضل واكبر"

 جادلها من جديد ليعيدها عن رأيها ولكنها رفضت وتسائلت 

"ولماذا لم تأخذ أنتَ ايضا مقابل لما تفعله, أنتَ مثلي تماما يعني نحن الاثنان نساعدها ابتغاء رضى الله"


 رد باريش عليها قائلاً 

" نعم أنتِ محقة. ولكن الأمر مختلف أنا لدي عملي عكسك أنتِ تبحثين عن عمل"


خفضت عينيها باحترام قائلة 

"لا تقلق معي ما يكفيني حتى أجد عملا، تعلم ايجاده ليس بهذه السهولة وخاصة بتلك الأيام لأجل هذا علي أن أصبر أكثر وأن أبذل مجهودًا أعلى"


هز باريش رأسه مجيبًا عليها 

"أتمنى أن تجدي عملا يرضيكِ قريبًا"


وتحرك وهو يقول لها

"سأمر على آسيا أثناء خروجي لتتابع وضع امينة هانم أثناء غيابنا"..

تغيرت نظرات سيلين بعد سماعها لنعته أمينة بهانم وهذا ما كان يحدث حين ينسى نفسه.


تحركت ونظرت من نافذة المطبخ للبناية المقابلة حيث تسكن آسيا قائلة 

"أعتقد أنها بالمنزل فهي لا تخرج بهذا الوقت" 


 رد باريش عليها 

 "جميل سأخرج للتحدث معها قبل ذهابي للعمل".


انتظرت خروجه حتى تنهي ما بيدها وتخرج هي أيضا بعد أن استأذنت من أمينة  واخبرتها بعدم تأخرها.


تجهزت على السريع وبدأت بتجميع أوراقها وحقيبتها وهي تتأكد من وجود كل ما تحتاجه بداخلها.


و قفت أمام المرآة كي ترتدي حجابها ثم حركت نظرها لتتأكد من حالة  ملابسها التي كانت تتعمد ارتداءها بشكل واسع فضفاض لا يصف او يشف منها شيئًا.

تحاول دائمًا أن لا تظهر جمالها أمام أحد، ورغم كل ذلك إلا ان سحر ملامحها الهادئة وخجلها بجانب صوتها الضعيف الهادئ الحنون وطبيعة ووجهها الأبيض وشفتيها الملونين بالاحمر العنابي يجعلوها تفشل وتصبح مطمع لكل من يراها..


وفور خروجها من البناية سمعت صوت  ينادي عليها التفتت نحو الصوت لتجد آسيا تطل من نافذة منزلها بالطابق الأول من البناية المقابلة لهم، تحركت واقتربت لتتحدث معها وتوصيها على امينة بغيابها.

وكالعادة أكثرت آسيا من احاديثها وأسئلتها التي تصل جميعا لباريش.

ضاق صدرها مما تسمعه أنهت الحديث كالعادة متحججة بتأخرها وأسرعت بالذهاب.

لم تتركها آسيا حتى اخبرتها بانشغالها بترتيب منزل ابنة عمها العروس لهذا لا يمكنها الاهتمام بامينة كما اخبرت باريش.

ردت سيلين 

"لا عليكِ هي بخير نسبها تبشر بتعافيها كما أنني اعطيتها دوائها وتناولت طعامها لم يحدث شر ساحاول أن أعود بوقت مبكر"

                

بمركز الشرطة طلب يوسف بيرقدار إذن رسمي كي يتصل بزوجته هوليا ليطمئن على ابنته ويطالبها بالقدوم لزيارته كي يحملها ويقبلها، فلا يحق لها حرمانه من رؤيتها، تحججت بوجودها بأمريكا وعدم استطاعتها المجيء لأجل ارتباطها بالأعمال الجديدة.

وبغضب طالبها يوسف إعادة أمواله التي اخذتها قبل دخوله للسجن قائلاً 

"قلتي لي أكثر من مرة أنكِ ستحولين الأموال لحسابي.. لماذا لم تفعلي هذا حتى الآن؟"

صدمته هوليا بردها القوي 

 "ليس لدي مال لك. هذا حقي وحق أبنتي مقابل السنوات التي قضيناها مع إنسان سيء مثلك خدعتنا بوجهك الطيب وتمثيل دور الرجل الطيب الحنون، ولكن إلى هنا وحسب قدمت طلب للمحكمة كي اتخلص من الرباط الذي يجمعني بك. لم أعد احتمل بقاء كنيتك بهويتي سنتطلق قريبا لينتهي ما بيننا. أتمنى أن تستخدم عقلك بإنهاء الأمر دون اطاله لأجل ابنتنا لتكن ذكرى طيبة لها"


انفعل يوسف وارتفع صوته عالياً  وهو يرد على سفهها 

 "ألا يكفيكِ ما حدث لنا بسبب أفعالك الغير مدروسة. ألا يكفيكِ تخليكِ عني بأشد أوقات حاجتي لكِ"


لم تجب عليه أغلقت الهاتف بوجهه سريعا ليشتعل هو غضباً على غضب، 

حاول باريش السيطرة عليه وتهدئته دون فائدة.

ارتفع صوته الغاضب أكثر ليظهر ما بداخلة من نار وضيق وألم صارخا 

"هي من خانت الأمانة وباعت وخدعت، هي من كانت تخبرهم عن تحركاتي. أنتَ محق. هي، هي دائما كانت هي. لم أُرِد التصديق طوال الوقت. كنت أعطي لها المبررات من أجل ابنتنا حتى بعد ما توصلتم له من التحريات  كنت دوماً أقول أنه حدث بمحض الصدفة، كنت ادافع عنها وعقلي رافض انها فعلت ذلك بي، كنت اقول لنفسي لا يمكنها فعل هذا بي. ولكن، ولكن.."

صمت مقترب من المقعد ليجلس عليه بقلب مهزم اخذا انفاسه بصعوبه غضبه وضيقه مكملا 

"ولكنها كانت هي. كانت دائما هي"

رفع نظره نحو باريش بعيون متواعده مخيفة قائلاً

"سأجعلها تدفع ثمن ما وصلت له وما أنا مجبر على عيشه. اقسم لك يا أخي سأجعلها تدفع ثمن حرماني من رؤيته ابنتي"

                

ومع مرور ساعات الصباح الأولى عادت سيلين من رحلتها بوقت قصير بعد أن قطع حذائها وطرف فستانها حين تعثرت قدمها بالدرج الكهربائي بأحد الشركات التجارية، كانت حزينة لما وصلت له من حال فكيف فزعت ودفعت نفسها على الدرج بمجرد اقتراب رجل كان يحاول امساك ابنته قبل سقوطها لامس ذراعها وهو يحمل ابنته للأعلى مما جعل سيلين تتعثر وتتحرك بخطوات غير مدروسة أدت لقطع حذائه و طرف فستانها.

فتحت باب منزل امينه لتطمئن عليها قبل صعودها، وهنا كانت المفاجأة على من بالداخل حين ذعر وأسرع بالاختباء خلف الأريكة الكبيرة القديمة.

اقتربت سيلين باطمئنان كبير تنظر لأمينة باستغراب متسائلة

"من اجلسكِ؟.." نظرت حولها مكملة 

"هل أتت آسيا.."

قاطعت حديثها حين رأت جاكيت ملقي على يد الاريكة 

اقتربت بخطواتها شيء فشيء ولسان حالها يقول 

"لمن هذا الجاكيت أنا لم أره من قبل"


يا ترى من هذا الشخص؟ وما مدى خطورته على سيلين؟

هل سيستطيع يوسف بيرقدار أن ينفذ قسمه ويحاسب زوجته على ما فعلته به. 

بل وهل ستجد سيلين وظيفة مناسبة في دنيا مرعبه بالنسبه لها، هل ستتمكن من مواجهة نفسها لتتمكن من تحمل قسوة الحياة.

   يتبع ..

 ‎إلى حين نشر فصل جديد ، لا تنسوا قراءة الروايات والقصص المنشورة منها الكاملة ومنها وقيد النشر حصرية لمدونتنا.


الليالي المظلمة الفصل الاول
Wisso

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  • غير معرف2 يناير 2025 في 10:31 م

    روعه تسلم ايدك حبيبتي

    حذف التعليق
    • Rim kalfaoui photo
      Rim kalfaoui5 يناير 2025 في 1:42 ص

      ورجعنا لابن أمينة والليالي المظلمة وما جرى لسلين من ظلمات واعتداء نفسي وجسدي من وحش الليل

      حذف التعليق
      google-playkhamsatmostaqltradent