رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
بوابة الظلام والنور
"هناك لحظات في الحياة تُطفئ العيون ليبصر القلب ما كان مخفيًا. فالظلام ليس دائمًا نهاية، بل قد يكون بوابة لبداية لا تُرى."
---
الجدران ترتجف كأنها تعيش ألمًا غير مرئي، والأرض تحاول أن تستعيد توازنها وسط طاقة تهدد بابتلاع كل شيء. جلست قمر بجانب يونس، عيناها مسلحتان بالقلق والخوف تتنقلان بين وجهه الذي بات أشبه بقناع من الشحوب والظلال المتربصة حوله، تتحرك كوحوش مستعدة للانقضاض.
مدت يدها نحو وجهه ولكنها توقفت للحظة وكأنها خافت أن تلمس ما لا تستطيع إنقاذه
صرخت بصوت كاد أن يُكسر تحت وطأة الرجاء: "يونس، أجبني!"
رفع يونس رأسه ببطء، عيناه غارقتان في سواد كلي، كأنهما نافذتان إلى عالم آخر. عالم لا رجعة منه، همس بصوت مخنوق:
"لا أستطيع... لا أستطيع أن أرى."
انفطر قلبها، ولكن دموعها ظلت حبيسة جفونها، وكأنها ترفض الاستسلام. وضعت يديها المرتعشتين على كتفيه، تحاول أن تستشعر نبض الحياة الذي لم ينطفئ كليًا بعد مردفة:
"الظلام ليس نهاية. لقد وعدتني أن نحمي بعضنا البعض."
بينما كان صوتها ينساب في الفراغ، تقدمت ميثال ووقفت أمامهم كأنها جزء من الظلال التي بدأت تتبدد تحت وهج غامض أضاء عصاها. وجهها يحمل حكمة العصور وغضب الأمهات اللواتي يحمين أبناءهن مهما كلفهن الأمر.
_"لن تهزمكم الظلمة إلا إذا سمحتم لها بذلك."
التفتت قمر بذهول نحوها مندهشة من ثباتها وقبل أن تتحدث، تقدمت ميثال بخطوات ثابتة، وعيناها مركزتان على يونس؛
"انهض يا صغيري. الظلام الذي فيك ليس لعنة. إنه قوة، ولكنه يحتاج إلى شيء واحد ليكون كاملاً: يحتاج النور."
نظرت قمر إليها بتساؤل ولكنها شعرت أن الوقت ليس مناسبًا للأسئلة. تقدمت ميثال أكثر نحو يونس انحنت لتضع يدها على كتفه، وبدأت تهمس بكلمات بلغة قديمة، كأنها نغمة سحرية تعزف على أوتار الكون.
شعر بشيء يتحرك داخله، كأن الظلال التي كانت تلتهمه بدأت تتراجع.
التفتت نحو قمر، نظرتها حازمة لكنها دافئة وهتفت:
"تعالي وحدكِ تستطيعين أن توازني هذه القوة. ظلال يونس تحتاج إلى وهجك."
ترددت قمر، لكنها شعرت بنداء خفي، كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ البداية. تقدمت. أمسكت بيد ميثال التى بدأت تتحدث بكلام سمعته قمر من قبل:
اطوِ جناحك على جراحك وبميثالك عزز اختلافك أيها القمر وبضوء الشمس توج ملامحك وقبل أن تضئ ليلهم طمئن جوف فؤادك وأشعل قناديل الأمل في جوانبه، أيا قمر تناسي جراح ماضيك وانتظر الصباح لتسلب حق الضياء من بؤبؤ الشمس واجعلها لك أنيسا وليس تضادا.
، وبمجرد أن انتهت حدث شيء لم يكن في حساب قمر. إذ خرج منها ضوء فضي. ليس ضوءًا عاديًا بل طاقة تشبه القمر في ليلة اكتماله. اندمج الضوء مع الظلال التي كانت تغلف يونس، ولم تكن النتيجة تلاشيًا لأي منهما بل اتحادًا متناغمًا. دوامة من النور والظلام بدأت تدور حولهم، تُضيء الغرفة وتطغى على بقايا الطاقة التي خلفتها منيفة.
يونس رغم عماه.شعر أن هذه القوة الجديدة تمنحه رؤية من نوع آخر. رؤية لا تعتمد على العينين بل على القلب.
وقفت منيفة وسط الفوضى، بدت كأنها تجسد الغضب نفسه. شعرها المشتعل بالألوان الداكنة بدا وكأنه يتحرك بحركة الرياح غير المرئية، وعصاها السوداء المتشققة أطلقت شرارات تهدد كل شيء في الغرفة. عينان تتقدان كجمرتين في عتمة حالكة، ومن حولها تدفقت الظلال لتشكل درعًا ملتفًا، يحميها ويهدد خصومها في آنٍ واحد.
صرخت:
"تظنون أنكم تفهمون قوة النور والظلام؟ أنتم لستم سوى أطفال تلعبون بما لا تفهمون!"
ولكن صوت يونس قطع الصراخ، كان ثابتًا وقويًا على عكس كل مرة. مد يده نحو قمر وشيء غير مرئي بدا وكأنه ربط بينهما. أشعة النور المنبعثة من يديهما أخذت تزداد لمعانًا بشكل يصعب النظر إليه، بينما الغرفة كلها بدأت ترتجف تحت تأثير الطاقة المتصاعدة.
صاحت قمر وهي تشعر بالطاقة الغامضة تعبر جسدها، وكأنها قناة لقوة لا نهاية لها:
"أمسك بيدي!"
عندما التصقت أيديهم بدا كأن العالم توقف لوهلة. امتلأ الهواء بشرارات طائرة، مزيج من الضوء النقي وظلال متراقصة. انفجرت عاصفة من الطاقة من حولهم دفعت منيفة خطوات للخلف، وجعلت عصاها تتأرجح في يدها.
بدأ يونس يتحدث، لكن كلماته لم تكن ملكه. كلمات بلغة قديمة، صوتها يرن كهدير البحر والعواصف معًا. التعويذات القديمة انطلقت من شفتيه كأنها نُقشت في قلبه منذ الأزل. الضوء والظلام حولهما لم يعودا في حالة حرب، بل كانا يتمازجان يشكلان قوة جديدة، قوة تفوق كل ما عرفته منيفة.
_"لا يمكن!"
صرخت منيفة، وهي تحاول تجميع قوتها، لكن الظلال التي استدعتها بدأت تتمرد عليها، تنكمش تحت وطأة الضوء المتزايد. حاولت رفع عصاها لكن الطاقة الهائلة التي انبعثت من يونس وقمر ضربتها كإعصار لا يمكن إيقافه.
انفجرت عصاها أخيرًا بصوت يشبه صرخات الأرواح المعذبة. الشرارات السوداء والرمادية تطايرت في كل اتجاه، وسقطت منيفة على الأرض يدها تحاول يائسة التمسك بشيء، لكن الأرض بدت وكأنها تهتز من تحتها. الظلال التي كانت تحتمي بها أصبحت كالوحوش التي التفت عليها، تعانقها بقسوة، بينما النور يطارد بقايا قوتها.
وسط كل ذلك وجهها يملأه الذعر تصيح بصوتها الذى بدأت تتلاشى قوته:
"لا! لا يمكن! أنا منيفة، حاكمة الظلال، لا يمكنكم القضاء علي!"
لكن صوتها يختفي تدريجيًا. بينما النور والظلام معًا ابتلعاها كأنها لم تكن يومًا.
مع اختفاء منيفة في دوامة الظلام والنور، عم الصمت المكان للحظات لكن سرعان ما عاد كل شيء للانهيار. بدأت الجدران تتشقق بصوت مدوٍ واهتزت الأرض تحت أقدامهم وكأن القصر نفسه يتنفس أنفاسه الأخيرة. السقف العتيق. الذي كان رمزًا للهيبة تصدع وبدأت أحجاره الثقيلة تسقط واحدة تلو الأخرى.
_"علينا أن نجد الكتاب الآن!"
صرخت قمر. نبرة صوتها مشبعًا بالتوتر والخوف بينما عيناها تحدقان بجنون في الركام المتساقط حولهم. كل شيء في حالة فوضى والغرفة تضيق تحت وطأة الدمار.
بدت ميثال أقل اضطرابًا رفعت عصاها المشتعلة بطاقة باهتة وأشارت إلى زاوية غارقة في الظلام.
قالت بصوت هادئ لكنه قاطع:
"الكتاب يختبئ في ذلك الركن. لا يمكن لأحد أن يصل إليه إلا إذا اتحد الظلام بالنور."
تحركت قمر وبجانب يونس مازال ممسكًا بيدها. ركضا نحو الزاوية دون تردد. الغبار يخنق الأنفاس وأصوات التصدعات ترتفع خلفهم. عندما وصلا إلى الظلام الذي يغطي الركن، مد يونس يده أولًا ليستشعر ما امامه دون أن يراه، لكن قمر أوقفته:
"معًا. يجب أن نفعل ذلك معًا."
تلاقت أيديهما فوق حجاب الظلام، وما إن لمست أطراف أصابعهما السطح البارد حتى بدأ الغشاء الأسود يتلاشى ببطء، وكأن ضوءًا داخليًا يذيب تلك الطبقة الكثيفة، فجأة. انبثق نور ذهبي مشع وظهر الكتاب أمامهم يطفو في الهواء. مغلفًا بهالة من القوة والرهبة.
_"أخيرًا!"
تنهدت قمر ثم تمتمت بها لكن الفرصة لفتح الكتاب أو قراءته لم تدم طويلًا، إذ اهتزت الأرض بقوة أكبر، وبدأ الركن الذي يقفون فيه ينهار.
صرخت ميثال:
"السرداب!"
وبدأت بعصاها ترسم تعويذات متسارعة في الهواء. من تحت أقدامهم، انشق الحجر القديم وظهرت بوابة دائرية مظلمة:
"هذا المكان سينهار علينا جميعًا! إلى الداخل الآن!"
دون تفكير دفع يونس وقمر نفسيهما إلى باب السرداب يجران معهما الكتاب الذي بدا وكأنه أثقل مما توقعا. لحقت بهما ميثال تلقي تعويذات تحمي الجدران المحيطة من السقوط الكامل، بينما الطوفان من الحجارة والغبار يتساقط خلفهم كأنه يطاردهم.
أضحي السرداب طويلًا. مظلمًا. رطبًا. الهواء فيه مشبع برائحة الأرض القديمة، الظلام الذي أحاط بهم بدا وكأنه يملك حياة خاصة به، لكن النور الذي حملوه كان كافيًا ليشق طريقهم.
خطواتهم المتسارعة تتردد في الفراغ الطويل، وكأن السرداب نفسه يعيد أصداء خوفهم. مع كل خطوة
يبتعدون عن ثقل الظلال التي أحاطت بمقرينوس، لكنهم لم يشعروا بالراحة؛ شيء ما كان ينتظرهم في نهاية الطريق.
وأخيرًا. بعد ما بدا وكأنه دهور الى الباب الاخر للسرداب
دفعوا الباب بكل قوتهم. ومع صرير ثقيل انفتح على عالمهم الحقيقي.
ما رأوه كان مفاجئًا بقدر ما كان مطمئنًا. بدت الغرفة مشبعة بالهدوء، جدرانها مزخرفة بنقوش ذهبية،
نفس الغرفة المألوفة بالنسبة لهم لكنها بدت وكأنها تنتمي إلى حياة أخرى، حياة بعيدة عن الظلام والمخاطر التي عاشوها.
وضع يده على الكتاب الذي لا يزال ينبض بطاقة غامضة بين يديه، ثم زفر بحنق قائلا بهدوء:
"لقد عدنا"
الغرفة تبدو كما كانت لكنها الآن مشبع بهالة غريبة، كأن الماضي الذي عايشوه قد تسلل معه يراقبهم من الظلال.
وقفت قمر في وسط الغرفة تنظر حولها بعينين مثقلتين بالإرهاق، ولكن بشيء من الارتياح الذي كاد يلامس قلبها:
"لقد عدنا حقًا"
بدت الجدران نظيفة وهادئة على عكس جدران مقرينوس المشققة والمليئة بالنقوش الحية. حتى الأرضية التي كانت في الطرف الآخر من السرداب تغص بالدماء والخراب بدت هنا ملساء كأن شيئًا لم يحدث.
قالت ميثال بهدوء وهي تراقب المكان بعينين حذرتين: "هذا القصر حافظ على اتزانه. إنه جزء من الحاضر، بعيدًا عن طغيان مقرينوس. لكن لا تخطئوا... أثر الماضي لا يختفي بسهولة."
التفتت قمر خلفها نحو السرداب فبدا وكأنه جدارًا صلبًا، لا يترك أي أثر لما كان هناك.
همست ويديها تتحسس الجدار وكأنها تبحث عن دليل يثبت أن السرداب لم يكن خيالًا:
"السرداب…اختفى"
لم يستطع يونس رؤية صدمتها لكنه شعر بها في نبرة صوتها المرتعشة، سأل بصوت خافت:
"اختفي!"
ميثال تقدمت بخطوات ثابتة نحو السرداب، وضعت يدها عليه وأغمضت عينيها لثوانٍ، وكأنها تحاول استشعار أي أثر. لكنها فتحت عينيها بعد لحظة، وقالت بهدوء:
"كأنه لم يكن موجودًا يومًا، كل شيء هنا عاد لما كان عليه قبل أن تبدأ رحلتى. حتى الغرفة... حتى الهواء... كل شيء طبيعي، هذا هو الحال دائمًا. النوافذ التي تربط بين العصور لا تبقى مفتوحة للأبد. عندما ينتهي دورها تختفي كأنها لم تكن."
التفتت قمر إلى يونس الذي كان يقف بصمت بجانبها. عينيه الغارقتان في السواد لم تُظهرا أي بريق. وقالت بأمل:
"لقد خرجنا. نحن هنا... هذا القصر هو نهاية مقرينوس. يجب أن يعود بصرك الآن، كما حدث من قبل."
وقف بصمت وكأنه يخشى أن يصدق كلماتها. لكنه أخيرًا قال بصوت خافت: "لا أبصر شيئًا"
تجمدت للحظة. كانت قد توقعت أن يحدث تغيير لحظة خروجهم من مقرينوس، لكن لا شيء حدث:
"جرب أن تفتح عينيك جيدًا. ركز... ربما يحتاج الأمر وقتًا."
هز رأسه ببطء، صوته محملًا بالخذلان:
" أحاول. لكن لا شيء... لا شيء يعود."
شعرت قمر بشيء ثقيل يسقط في قلبها:
"لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًا... ليس بعد كل ما مررنا به!"
التفتت إلى ميثال التي كانت تقف في صمت ثقيل، عيناها تحملان خليطًا من الحزن والمعرفة:
"أخبريه يا ميثال. أخبريه أن هذا مجرد أثر مؤقت"
تقدمت نحو حفيدها وضعت يدها على كتفه، وقالت بصوت مبحوح لكنه ثابت:
"ما حدث لعينيك مختلف هذه المرة. ما أصابك ليس جرحًا عاديًا، ولا حتى لعنة زائلة. إنه شيء أعمق من ذلك."
_"ماذا تعنين؟"
أردف يونس بصوت يحمل غضبًا خافتًا، وكأنه يحاول التمسك بأي أمل.
_"الظلام الذي فيك جزء منك الآن. جزء لا يمكن أن يختفي بمجرد خروجنا من مقرينوس. لقد اندمج معك عندما اخترت أن تقف في طريق تعويذة منيفة لحماية قمر. تلك التضحية لم تكن بلا ثمن."
صرخت قمر. عيناها تملؤهما الدموع التي ظلت تقاومها طوال الطريق:
"لا... لا أصدق هذا! لابد أن هناك حلًا. لابد أن نبحث في هذا المكان... هذا القصر مليء بالأسرار، أليس كذلك؟ ربما نجد شيئًا يعيد بصره!"
أومأت ميثال ببطء:
"ربما. لكن علينا أن نفهم شيئًا... يونس الآن ليس كما كان من قبل. عماه ليس عجزًا، بل هو بوابة لقوة أخرى. عليه أن يتعلم كيف يرى بطرق أخرى."
رفع يونس رأسه أخيرًا وقال:
"لا يهمني كيف أرى. ما يهمني هو أننا خرجنا أحياء وأن جدتي بخير."
كانت نبرته تحمل حزنًا ثقيلًا. بدت كأنها مرآة لرحلة طويلة من الألم والنضج، رحلة علمته أن الحياة ليست في ملذاتها العابرة ولا في سعيه وراء اللحظات العابثة. لم يعد يونس ذلك الشاب الطائش الباحث عن المتعة والمغامرة، بل أصبح رجلًا يفهم أن القيمة الحقيقية للحياة تكمن في وجود من يحبهم حوله، وفي أن يراهم بخير وسلامة. كل ما كان يسعى إليه في الماضي بدا الآن بلا معنى أمام شعوره بالمسؤولية ورغبته في حماية من يحبهم مهما كلفه الأمر.
إلى هنا انتهي فصل يوم آمل أن ينل إعجابكم. انتظروا الفصل القادم يوم الاثنين القادم ان شاء الله.