رواية مقرينوس
ضي القمر وظلمات يونس
في غرفة يغلفها الصمت حيث لا حياة سوى أنفاسه المتقطعة يجلس يونس على كرسيه. ظهره منحني وكأنه يحمل أثقال الأزمنة على كتفيه. عيناه مثبتتان على العدم لا يرى شيئًا رغم أنه استعاد بصره. لكن الظلام الذي يحيط به ليس سببه العمى، بل غيابها!
يدرك الآن أن النور لم يكن يومًا في عينيه بل كان في قمره، وحين اختفت... غرق مجددًا، لكن هذه المرة لم يكن هناك أمل في الخروج.
مر زمن لكنه لا يعلم كم. الأيام تذوب في بعضها دون معنى. الساعات تفقد قيمتها. والليالي لا تنتهي. منذ خروجهم من مقرينوس، منذ أن تبخر أثرها من الوجود وكأن الأرض انشقت وابتلعتها وهو عالق في هذا التيه، لا يريد أن يرى أحدًا. لا يريد أن يستمع لأحد ولا حتى أن يسمع صوته هو نفسه. ماذا قد يقول؟ كيف يشرح للآخرين أن فقدانها أشد قسوة من فقدان بصره؟
كل شيء يذكره بها حتى الفراغ الذي تركته. يده تنجرف لا إراديًا نحو الغرفة التي جمعت بينهما. حيث تشاركا لحظات البحث واليقين، والحيرة والخوف. كان عليهما أن يبقيا معًا، هكذا وعدته وهكذا أراد هو. لكنه الآن وحيد، وهي... لا أحد يعرف أين هي.
لماذا رحلت؟ السؤال ينهش عقله كخنجر بارد. حين خرجوا من مقرينوس لم يكن يبصر شيئا وكان يعلم أنها لن تتركه حتى يستعيد بصره، قالت ذلك بنفسها. لكنه الآن يراهما بوضوح— عينيه تعافتا، لكنها ليست هنا. هل كان شفاؤه ثمن رحيلها؟ هل كان ينبغي أن يظل أعمى ليبقى بجوارها؟
يردد في داخله بغصة:
"ليتنا لم نخرج من هناك، ليتنا سُجنّا في الزمن نفسه، ليت الأيام توقفت حين كنا معًا..."
في قلب العتمة التي اختارها، حيث الصمت أثقل من أي كلمات، دوت خطوات بطيئة على أرضية الغرفة...
غارقًا في أفكاره في تساؤلاته التي لا تنتهي، في الهاوية التي تركته فيها قمر، حين اخترقت هذه الخطوات عزلته. لم يلتفت لم يحاول حتى أن يرفع رأسه لكنه شعر بها تقترب شيئًا ما بدا له مألوفًا... أو ربما مزعجًا.
وفجأة كأنما استيقظ من غيبوبة أفكاره، صرخ بصوت مبحوح لكنه ممتلئ بالغضب المكبوت:
"من؟!"
تردد الصوت للحظات، ثم جاءه صوت ناعم متردد يحمل مزيجًا من التردد:
"أنا... هذه أنا، عليا."
تصلبت ملامحه. لم يتزحزح. لم يرفع رأسه، فقط ازدادت قبضته على طرف الكرسي حتى أبيضت مفاصله. للحظة فكر في أن يطردها بصمت، لكن غليانًا داخله لم يسمح له بذلك. كان غاضبًا، لكنه لم يكن غاضبًا منها وحدها. كان غاضبًا من كل شيء. من العالم. من نفسه. من عجزه. ومن تلك التي اختفت دون أثر.
لكنه لم يسمح لعليا أن ترى ذلك. لا، لن يمنحها هذا الامتياز. فكر بسرعة، ثم اتخذ قراره.
بصوت حاد ممتلئ بالسخط، قال:
"ومن سمح لكِ بالدخول؟ ألم أطلب ألا يزعجني أحد؟!"
تقدمت خطوة وكأنها تحاول تبرير وجودها، لكن غضبه كان أسرع من كلماتها. أدار رأسه بعيدًا متظاهرًا أنه لا يراها، كأن عينيه لا تزالان غارقتين في الظلام، وقال بحدة:
"أخرجِي، لا أريد أن أرى أحدًا"
ترددت عليا للحظة لكن قسوته كانت كافية لتجعلها تنسحب دون جدال. صوت خطواتها العائدة للخلف كان بالكاد مسموعًا، لكنه شعر بها كما لو أنها مسامير تدق في صدره.
لكن قبل أن يعود إلى وحدته جاءه صوت آخر. أعمق. أكثر دفئًا، يحمل سنوات من الحكمة والألم:
"يونس، بني..."
التفت قليلًا ليس برأسه بل بقلبه وكأنه كان ينتظر هذا الصوت. جدته الملجأ الأخير، الشاهد الوحيد على ضعفه الذي لا يمكنه إخفاؤه عنها.
اقتربت منه بخطوات هادئة وجلست على مقربة منه. لم تسأله عن حاله فهي تعرفه جيدًا، تعرف أن قلبه ليس على ما يرام، أن هذا الغضب ليس موجهًا نحو عليا، ولا نحو أي شخص آخر بل هو ثورة على الألم. على الفراغ الذي تركته قمر خلفها.
بصوتها الحنون الممزوج بالحزم قالت:
"أعلم أنك تتألم، بني... وأنا أتألم معك. لكننا نبحث عنها في كل مكان وسنجدها... سنعرف لماذا رحلت بهذه الطريقة."
ظل صامتًا للحظة ثم جاء صوته هامسًا مبحوحًا كأنه خرج من عمق روحه المنكسرة:
"وكأنني أضعت نفسي معها يا جدتي... كنتُ أعمى حين وجدتها لكنني أبصرتُ من خلالها. لم يكن ضوء عينيها فقط، بل كان ضوءها كله. هل تفهمين؟ لقد فهمتُ نفسي بوجودها، والآن... لا شيء واضح، كل شيء ضبابي، حتى وأنا أرى العالم أمامي، لا أرى شيئًا بدونه."
نظرت إليه جدته بحزن عميق ثم مدت يدها. لمست يده التي كانت ترتجف خفية:
"الحب ليس شيئًا يُمحى بالغياب،أحيانًا يختفي من نحبهم كي نجد طريقنا إليهم من جديد بشكل آخر في زمن آخر.
لا تفقد نفسك في غيابها، وإلا لن تجدها حين تعود."
أغمض عينيه وكأنما يحاول أن يمنع سيل الذكريات من أن يجرفه. بعد لحظات تمتم بصوت بالكاد يُسمع:
"لكنها وعدتني، قالت إنها لن تتركني حتى أستعيد بصري، وها أنا قد استعدته، لكنها ليست هنا. لماذا؟ لماذا ذهبت فجأة؟ هل كنتُ عبئًا عليها؟ هل كانت تنتظر فقط أن أتعافى لترحل؟"
هزت جدته رأسها بحنان، ثم قالت بحكمة عميقة:
"لا أظن ذلك يا بني. قمر لم تكن لتتركك لو كان الأمر بيدها. هناك أسباب ربما أكبر من فهمنا الآن، لكنك يجب أن تثق بها كما وثقتَ بها دائمًا. لا تسمح للظنون بأن تأكل قلبك وإلا لن يتبقى منه شيء حين تعود."
زم شفتيه وأخذ نفسًا عميقًا لكنه لم يقل شيئًا. فقط، سمح لصوتها أن يتغلغل داخله، أن يهدئ العاصفة التي تزلزل روحه. ربما كانت محقة. لكن الألم لا يعرف المنطق. والاشتياق لا ينتظر تفسيرًا.
صمت طويلًا وكأن كلماته عالقة في حلقه، يختنق بها لكنه لا يستطيع لفظها. نظر إلى الجدار أمامه بعينين زائغتين وكأنما يرى طيفها محفورًا في الظل. تقف هناك تبتسم له بتلك الابتسامة التي كانت تطمئنه دائمًا ثم تتلاشى كما لو أنها لم تكن سوى سراب.
تمتم بصوت منخفض، بالكاد تسمعه جدته:
"وأنا لم أعد أطمئن، لا شيء يطمئن. أشعر أنني أعيش في كابوس لا ينتهي أفتح عيني كل يوم فأبحث عنها كالمجنون في كل زاوية. في كل ركن. حتى في أحلامي... ولا أجدها."
تنهدت جدته ثم مدت يدها لمسته برفق، بحنان الأم التي لم تنجبه لكنها احتضنته كأنه ابنها الوحيد:
"أعرف يا بني أعرف... فقدان شخص تحبه أشبه بالضياع في بحر بلا شاطئ. لكنني أعرفك، أنت أقوى من أن تغرق. حتى لو شعرت الآن أنك تائه، ستجد طريقك وستجدها."
نظر إليها أخيرًا. عينيه تمتلئان بشيء لم يكن يريد الاعتراف به، بشيء كان يحاول قتله داخله منذ لحظة اختفائها:
"لكن ماذا لو لم أجدها، ماذا لو لم تعد؟"
ابتسمت ابتسامة صغيرة حزينة لكنها مفعمة باليقين، ثم قالت بصوت هادئ، كأنها تروي له حقيقة لا تقبل الجدل:
"هي لم تتركك لتذهب بعيدًا بل لتقربك منها أكثر. أحيانًا، نفقد الأشخاص لنفهم مكانهم الحقيقي في حياتنا. وأنت تعرف جيدًا أن قمر لم تكن مجرد شخص عابر في طريقك."
خفض رأسه، وشعر بيده تشتد قبضتها على الكرسي. شيء ما داخل صدره انكسر، أو ربما كان يتشكل من جديد.
أغمض عينيه للحظة، ثم همس:
"لو كنت أعلم أن هذا سيحدث... لو كنت أعلم أنني سأستيقظ دون أن أجدها، لكنت احتفظت بصوتها في ذاكرتي أكثر، لنظرتُ إليها مرات ومرات قبل أن تغيب عني، حتى لا أنسى."
ربتت جدته على يده بلطف، ثم قالت بحنان:
"أنت لم تنسَ، ولن تنسى يا يونس، واعدك اننا سنجدها. سنعرف الحقيقة. وحتى ذلك الحين، لا تدع الغياب يسلب منك ما منحتك إياه بوجودها."
نظر إليها مطولًا ثم أطلق زفرة طويلة وكأنما أطلق معها جزءًا من ألمه، لكنه لم يكن كافيًا.
لقد كانت جدته محقة في شيء واحد...
قمر لم تكن مجرد شخص عابر في حياته.
بل كانت الحياة ذاتها.
ساد الصمت للحظة، كأن الهواء في الغرفة بات أثقل من أن يُستنشَق.
ميثال تراقبه بصمت، بعينيها اللتين خبرتا الحياة أكثر مما أرادت ثم تنهدت بعمق قبل أن تقول بصوت هادئ لكنه محمل بالعتاب:
"إلى متى، يونس؟ إلى متى ستستمر في تمثيل العمى على باقي الأسرة؟"
لم يرد فقط ظل ينظر إلى الفراغ أمامه، وكأنه لم يسمعها، لكنه سمعها جيدًا.
_"والدتك تتعذب كلما أبصرتك هكذا، بني. أرجوك، أخبرها أنك استعدت بصرك، دعها تستريح ولو قليلًا."
عندها فقط التفت نحوها بعينيه المشتعلتين بالغضب والمشاعر المكبوتة التقتا بعينيها العجوزتين الممتلئتين بالحزن. زمّ شفتيه للحظة قبل أن ينطق، كلماته كانت قاسية، لكنه لم يعد يملك سوى القسوة في حديثه عنهم.
_"لا يستحقون أن أخاطبهم، ولا أن أعتبر بوجودهم بعد ما اقترفوه بحقك."
نهض من مكانه، يسير ببطء في الغرفة، وكأن الغضب يحركه ليكمل:
"لقد صدقوا أننا متنا، تخيلي يا جدتي! لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث، لم يتساءلوا حتى إن كان هناك احتمال ضئيل بأننا ما زلنا على قيد الحياة! بل كانوا أول من دفننا ونحن لم نمت بعد."
توقّف عند النافذة قبضته انغلقت على حافتها، وكأنها الشيء الوحيد الذي يمنعه من الانفجار:
"وأمي؟ أمي التي يفترض أن تشعر بي، أن تعرف أنني لم أمت. ماذا فعلت؟ بدلًا من أن تبحث عني، بدلًا من أن تكذّب ما يُشاع، بدلًا من أن تقاتل لأجلي، قررت بكل بساطة أن تصدّق!"
ضحك بسخرية لكنها كانت ضحكة خالية من أي مرح، مجرد طنين حزين في الغرفة:
"لو كنتُ ابنها حقًا، لو كانت تحبني كما تدّعي، لشعرت بي لعرفت أنني على قيد الحياة، لكنها لم ترَ إلا المال. سعت خلفه بجنون، حتى طمست أمومتها تمامًا. باعت القصر، كأنه لا شيء كأن ذكرياتنا فيه لم تعنِ شيئًا. أي أم هذه يا جدتي؟!"
لم تجبه فورًا. نظرت إليه بعينين تمتلئان بالشفقة، لكنها لم تشأ أن تصب الزيت على ناره. تركته يتنفس غضبه، يخرج ما بداخله، ثم قالت بصوت هادئ لكنه يحمل ثقل الحقيقة:
"ربما أخطأت، ربما خذلتك لكن لا تنسَ أنك لم ترَ قلبها، بل رأيت ما فعله الألم بها. أحيانًا يا يونس، الألم يجعل الناس تتصرف بطرق لا تشبههم."
لم يرد عليها لم يكن يريد أن يفكر في أعذار لأمه، لم يكن مستعدًا لذلك. لكنه فجأة شعر بأنفاسه تتباطأ، وذكرى أخرى تجتاحه، ذكرى مختلفة تمامًا، واحدة جعلت قلبه ينكمش في صدره.
استدار نحوها، صوته هذه المرة لم يكن غاضبًا، بل كان حزينًا، وكأن روحًا من الماضي تتحدث على لسانه:
"وأنا يا جدتي بحثتُ عنكِ بين الأزمنة. لم أصدق أنك رحلتِ، لم أفقد الأمل، قمر أيضًا... قلوبنا رفضت التصديق أن مكروهًا أصابكِ. مهما تبدّل الزمن، مهما فرّقتنا العوالم، ظللنا نحمل يقينًا واحدًا، أن روحكِ لم تنطفئ."
ثم ابتسم ابتسامة باهتة، لكنها كانت مشوبة بالكثير من العتاب والمرارة:
"أترين الفرق؟ هناك من يتمسّك بالأمل حتى وهو يعبر المستحيل، وهناك من يستسلم لأول خبر يسمعه."
أخفض رأسه قليلًا ثم تمتم وكأنما يخاطب نفسه أكثر مما يخاطبها:
"أنا لا أستطيع أن أكون مثلهم... لا أستطيع."
نهضت جدته واقتربت منه رفعت يدها ببطء ولمست وجنته بحنان، جعلته يغمض عينيه للحظة، كأن لمستها أعادته إلى الطفولة، إلى الأمان الذي لم يعد موجودًا:
"ولا أريدك أن تكون مثلهم، لكن لا تجعل قلبك يسقط في فخ الكراهية. لا تحرق ما تبقى منك بالغضب لأنك قد تحتاج إليه يومًا عندما تعود قمر."
عند تلك الجملة، تجمّد في مكانه، وكأنها ضغطت على جرح لم يلتئم أبدًا.
قمر...
تنفّس ببطء، لكن الهواء كان ثقيلًا في صدره، وكأنه أصبح عاجزًا عن الاستيعاب.
هل ستعود؟ وهل سيبقى منه ما يكفي لاستقبالها عندما تفعل؟
___________________
في ركن اخر من القصر حيث امتزج صوت النسيم بأصوات خافتة تشي بالمكر جلست عليا بجوار والدتها يسرية، عيناها محمرتان ووجهها يحمل آثار الحزن والتعب.
بصوت مرتجف، حاولت كبح دموعها وهي تقول:
" لم أعد أتحمل، يونس لا يعاملني إلا بالجفاء والغلظة. كأنه لا يراني، كأنني مجرد شبح يطوف حوله، حتى عندما أحاول التحدث معه، ينهرني وكأنني أعدوه."
ربتت والدتها على يدها برفق، محاولة أن تنقل لها طمأنينة تفتقدها هي ذاتها:
"اهدئي. كل هذا مؤقت، ستري. يونس ما زال تحت تأثير اختفاء تلك الفتاة، لكنه سينساها. الرجال ينسون بسرعة، خاصة عندما يكون لديهم امرأة ذكية مثلك."
نظرت إليها عليا بتردد، وكأنها تحاول تصديق كلمات والدتها، لكن قلبها المكلوم لم يسمح لها باليقين:
"ولكن، ماذا لو لم ينساها أبدًا؟ ماذا لو ظلت ذكراها تطارده؟"
ابتسمت والدتها بابتسامة مملوءة بالثقة، ثم قالت:
"لهذا السبب أنتِ هنا، أليس كذلك؟ ستجدين طريقك إلى قلبه، ستملئين الفراغ الذي تركته قمر. وبمرور الوقت، سيصبح زوجك وسينساها وكأنها لم تكن."
لكن قبل أن تستطيع عليا أن تستمد بعض الراحة من كلمات والدتها، قاطعهما صوت حاد، مليء بالغضب والازدراء.
_"ماذا تفعلان هنا؟"
التفتتا برعب نحو مصدر الصوت، ليجدا يونس واقفًا أمامهما، نظراته ثابتة على الأفق البعيد، كأنه لا يراهما حقًا، أو كأنه يرفض رؤيتهما.
_"ألم تبيعوا هذا القصر؟ بأي عين تجدون الأحقية في البقاء معنا؟"
احمر وجه خالته من الإحراج، لكنها حاولت التماسك والرد بلباقة مصطنعة:
"يونس. بني. نحن هنا لنطمئن عليك فقط. القصر... كان من أجل مصلحة العائلة، لم نقصد أبدًا—"
لكنه قاطعها، صوته الآن أعمق وأكثر تهديدًا:
"مصلحة العائلة؟ عائلتي الحقيقية لا تبيع إرث أجدادي، لا تتاجر بذكرياتي. أنتما لستما موضع ترحيب هنا. هذا البيت لم يعد ملكًا لكما، لقد تخليتما عنه كما تخليتما عنا."
تجمّدت عليا في مكانها، كأن كلماته كانت سكاكين تغرس في صدرها. حاولت أن تتحدث. أن تجد مبررًا، لكن نظراته القاسية أسكتتها قبل أن تنطق:
"غادروا... الآن. ولا تعودوا مجددًا."
كان صوته كالرعد، لم يترك مجالًا للجدال أو النقاش.
تبادلت عليا ووالدتها نظرات مذعورة، ثم نهضتا على عجل، تغادران وكأنما الأرض تحت أقدامهما صارت جمرًا.
حينما اختفى صوتهما في أرجاء القصر، وجه حديثه نحو جدته، التي كانت تراقب من بعيد، نظرتها ممتلئة بالحزن والحسرة.
قال بحزم لا يقبل النقاش:
"جدتي، أرجوكِ... لا أريدهم هنا مجددًا. لا أريد أن أسمع أصواتهم في هذا المكان. لقد فقدنا ما يكفي بسبب أفعالهم."
تنهدت جدته بعمق، ثم قالت بلطف:
"كما تريد، يا بنى. هذا البيت ملكك أنت وحدك الآن. ولن يُدنّسه من لم يعرف قيمته."
نظر يونس إلى السقف العالي، إلى الجدران التي شهدت طفولته وأحلامه، إلى الأرض التي كانت تجمعه بقمر قبل أن يبتلعها الزمن.
لن يسمح لأحد بأن يلوث ذكرياتهما المشتركة،
حتى لو كان الثمن الوحدة.
كانت والدته تقف بعيدًا في ظل العمود الرخامي عند مدخل القاعة، عيناها تتابعان المشهد بصمتٍ موجع.
رأت وجه عليا الممتقع وارتجاف شفتيها وهي تغادر دون حتى أن تحاول الدفاع عن نفسها. رأت الخيبة في ملامح اختها وفي الطريقة التي تجنّبت بها النظر إليها وهي تسرع بالمغادرة مع ابنتها.
ثم وقع بصرها على يونس، واقفًا في منتصف القاعة كتمثال حجري صلبًا في وقفته لكن عينيه كانتا تحكيان قصة أخرى...
حزن. غضب. وحدة.
يتنفس ببطء وكأنه يحاول كبح عاصفة أخرى قبل أن تجتاحه، لكنها تعرفه جيدًا، تعلم أن العاصفة لم تنطفئ، فقط تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار من جديد.
لم تحاول الاقتراب، لم تحاول التحدث، لم تحاول تبرير أي شيء...
كان واضحًا أن وجودها لم يعد مرحبًا به.
أخفضت رأسها قليلًا شعرت بأن ثقلًا جاثمًا فوق صدرها، لكن لا فائدة من المقاومة.
بخطوات هادئة. استدارت وغادرت. لم تحاول حتى إلقاء نظرة أخيرة عليه، فقد شعرت بأنها لم تعد تملك الحق في ذلك.
لم يلتفت يونس نحوها لم ينادِ عليها لم يحاول إيقافها.
لكنه سمع وقع خطواتها تبتعد، وشعر بشيء ثقيل ينزاح عن صدره، لكنه لم يكن ارتياحًا بل فراغًا آخر يُضاف إلى الفراغات التي تركها كل من أحبهم خلفهم.
عندما أُغلِق باب القصر خلفها نظر يونس إلى جدته، التي تتابع بصمتٍ دامع.
قال بصوت هادئ لكنه مشوب بالمرار:
"ها قد رحلوا جميعًا"
لكنها لم ترد عليه.
لأنها كانت تعلم أنه رغم كل شيء لم يكن يعني كلماته حقًا.
ساد الصمت في القصر وكأن جدرانه استوعبت الحزن الذي يملأ أركانه.
وقف يونس وسط القاعة، عينيه مثبتتان على الفراغ أمامه، بينما جدته تراقبه بصمت.
أخيرًا استدار مبتعدًا متجهًا إلى الغرفة المسحورة بخطوات ثقيلة.
عند عتبة الباب توقف للحظة ثم همس بصوت بالكاد يُسمع:
"لكنها ليست هنا، جدتي... رحلت ورحل الجميع، وأصبحت وحدي."
ثم دخل الغرفة، وأغلق الباب خلفه.
وفي الخارج كانت الرياح تداعب نوافذ القصر العتيق، تحمل معها همسات من زمنٍ رحل ولم يعد.
إلى هنا انتهي الفصل آمل أن ينل اعجابكم…
انتظروا الفصل قبل الاخير يوم الخميس ان شاء الله