الليالي المظلمة الجزء الثاني
بقلم امل محمد الكاشف
سقطت هوليا ارضا مغشيًا عليها، امر سنان رجاله بتولي امرها وخاصة بعد تأكد أحدهم انها لا زالت على قيد الحياة، تحرك وهو يسحب نعمان ليصعد به سيارته لينطلقوا صوب قصره المخيف، ابتعد الجميع عنه مخفضين انظارهم خوفاً منه صعد لغرفته و اغلق بابها بقوة، لتقترب دينيز من سنان متسائلة
" ما به ؟ هل من جديد؟.."
فُتح باب الغرفة لتخرج المربية بالطفل الصغير، نظر سنان للأعلى نحو طفل نعمان وهو بيد المربية قائلا لدينيز
" لا اعلم كما ترين ساءت حالته دون سبب واضح"
لم يمر عدة دقائق حتى سمعا صوته يخرج من الغرفة وهو يصرخ و يكسر متوعد زوجته بالطلاق الفوري و جعلها تندم على حياتها..
وقفت زوجته بزوايا الغرفة خائفة منه تنظر نحوه بترقب و ذعر.
✿✿✿
في الوقت ذاته وقفت سيارة كبيرة أمام باب الفندق لتنزل هوليا منها وهي بحالة سيئة تسير بأرجل تتخبط ببعضها من شدة ارتجافهم..
دخلت غرفتها وهي تدقق في أرجائها باحثة عن الكاميرات بخوف، فكرت ان تنتقل لغرفة اخرى بالفندق وبالصباح تتركه كليًا ذاهبة لمنزل احدى صديقاتها لتكون ضيفة لديها حتى ذهابها من اسطنبول باخر الاسبوع.
اتخذت قرار الرحيل في لحظة رعب تكرار ما عايشته الليلة بجانب شعورها بقرب نهاية مستقبلها الفني والاجتماعي فإن أشيع عنها دخولها بعلاقات غير مشروعة مع كبار الفنانين و أصحاب القرارات النهائية بتقييم المعارض الفنية بتركيا و ايضا ان علم أحدهم أن اللوحات الفنية المنسوبة لها باخر سنوات جميعها بداية مستوحاة من أعمال فنية لمبتدئين يتم استغلال موهبتهم للصعود على اكتافهم ستنتهي نهاية ساحقة ناسفة لا رجعة بها، والأكثر من هذا كله خوفها على روحها ساءت حالتها اكثر حين فتحت الUSB لتجد فيديو لها وهي تعيد تدوير لوحة فنية نسبت لها فيما بعد و كرمت عليها، والاصعب انها وجدت فيديو خاص لها هي و جوفير احد اكبر مسؤولي تقييم الفنانين بتركيا.
وبعد عدة ساعات من دخول نعمان الغرفة ونومه بدأ ألمه الروحي في مجاهدته كوابيسه المظلمة وهو يرى أمهُ بأحضان عشيقها، تعرق وجهه واصبح يهتز نومه بقوة قائلًا
"خائنة.. خائنة. خائنة"
رغم أنها عاهدت نفسها أكثر من مرة ان تبتعد عنه بهذه الحالة إلا أن قلبها لم يتحمل اقتربت واحتضنته من جديد وهي تقول له
" ذهب. جميعه ذهب. لقد ثأرت لأبيك و لنفسك منها"
كانت تحاول إيقاظه مما هو به لتجد نفسها مرة اخرى تواجه مصيرها المتكرر حين اخرج غضبه عليها وكأنه يخوض حربًا معها، ومن جديد لم تجد فيروزة سوى وسادتها بجانبها كي تضعها بفمها صارخة داخلها لتخرج ألمها بها.
برزت الشرايين الحمراء بوجهها من شدة قبضة يده على ذراعها، هدأ ونام اخيرًا مرددًا بلسانه
"انتِ لي انتِ ملكي انتِ لي انتِ ملكي"
أكملت بكاؤها الصامت المؤلم دون صوت، فما اصعب تحملها لهذه اللحظات المخيفة والصعبة، من الغريب تحملها لكل هذا العبء والالم دون شكوى او تذمر، ومقابلته بالرحمة رغم ما يفعله بها.
لم يكن نعمان الوحيد الذي يعاني من الكوابيس في هذه الليلة فها هي في غرفتها بالقصر الفولاذي نائمة على فراشها تصارع كابوسها الشبه يومي وحدها دون ان تفهم ما يحدث معها فهناك ضباب و ظلام يحيلون بينها وبين رؤيتها لما ورائهم بجانب أصوات الخفافيش و البوم تصدأ و تتكرر و تزيد كلما اقترب منها ذلك الظل الذي لم يظهر منه سوى خياله الاسود كملامحه وملابسه.
جلست مختنقة تحاول تهدئة نفسها كي لا يستيقظ أبنائها من حركتها، قامت لتشرب الماء وهي تبكي متذكرة احتضانه لها بهذه الحالة، تذكرت مساندته لها طوال فترة علاجها، بكت بصمت وهي تتذكر رقصاتهم و زياراتهم للطبيبة النفسية لعدة سنوات دون ملل او تقصير بل تشجيع وحب ومساندة، بكت بحسرة وحرقة على ما عاشته وما فقدته.
….
استيقظ نعمان على صوت رنين هاتفه تقلب على فراشه وهو يحاول اكمال نومه، حرك يده ليحتضنها من الخلف، أغمضت فيروزة اعينها بقوة عندما شعرت بيده تحاوط خصرها، بل عندما شعرت بأنفاسه تقترب من عنقها لاحظ نعمان خوفها وابتعادها كما شعر بدموعها تتساقط من عيونها مجددًا.
نظر للبقع الحمراء على أذرعها ليتحرك جالسًا على ركبتيه منحيًا عليها كي يعتذر منها عن حديثه و تعنيفه لها بالأمس، عاتبها على تقربها منه رغم تنبيهه لها ان تتركه بهذه الحالة ليعيش مصيره وحده.
أتى صوت هاتفه لاذنه مرة اخرى ازداد غضبًا ليأخذ الهاتف ويغلقه بشكل كامل دون النظر للمتصل.
فحين يصل الأمر لمحبوبته ينسى كل شيء حتى نفسه، دخل بحضنها كطفل صغير مكسور ضعيف فلا أحد غيرها يرى هذا الوجه الحقيقي له.
طرق الباب ليغضب نعمان وتأزرت عيناه بشرار الغضب وهو ينظر نحو الباب قائلا
" ليس الآن "
لم يطل نوم نعمان ليطرق الباب مرة أخرى مع وصول صوت دينيز وهي تقول
" نعمان بيه هناك أمر مهم، نعمان بيه عليك أن تجيب على هاتفك بشكل عاجل "
تحرك كي يفتح هاتفه الذي لم يهدأ طوال الليل، مستمعًا لصوت سولجان وهو يقول
" تم إحراق المصنع بشكل سيء. لا نعلم أي تفاصيل حول الحادث حتى الان"
جلس نعمان مفزوعًا وهو ينزل من الفراش متوجها للحمام قائلا
" مسافة الطريق وسأكون هناك"
وبعد دقائق معدودة خرج نعمان من الحمام بلمح البصر، ارتدى طقم من اطقمه التي تتصف جميعها باللون الأسود الداكن، وجاء ليخرج من الغرفة لولا وقوفه حين سمع صوتها وهي تترجاه
" أريده بجانبي رجاءً أريده معي"
وقف و قلبه يهتز من صوتها الباكي استدار لينظر لها بعيون حزينة على حالتها وعلى ما فعله بها، ابتلع ريقه وخرج من الغرفة مغلقًا بابها، اقتربت دينيز منه فور خروجه من الغرفة وإغلاق بابها لتقول
" سيكون كل شيء على ما يرام لا تقلق، لا أحد سيدخل أو يخرج من الغرفة "
نظر نعمان خلفه نظرة لا زالت حزينة متحدثا بعدها " ليبقي معها هذا اليوم"
ردت دينيز لتقول
" ولكن.."
لم ينتظر سماع حديثها اكمل سيره للخروج من المنزل تاركها غاضبة من فيروزة، ورغم كل هذا الكره لم تستطع مخالفة قرارات نعمان بيه ذهبت لغرفة الطفل لتأمرهم باخذه لامه كي يقضي يومه معها.
و بعد وقت قصير وقف نعمان أمام مصنعه بعيونه القوية متحدثًا مع الشرطة نافيًا ان يكون الحادث بفعل فاعل، ترك فريق الشرطة المكان وهي غير مقتنعة بأقوال نعمان.
اقترب منه سولجان كي يريه رسالة على هاتفه محتواها
" أبلغ نعمان بيه سلامنا "
غضب أكثر حتى احمر وجهه وكأنه سيخرج الدخان من اذنه بعد قليل.
فرحت بقدوم ابنها إليها، جلست تلاعبه بوجهها الضاحك محاولة ارضاعه واعطاءه علاجه و هو فرح بحضنها
فتحت دينيز الباب دون طرق لتقف بجانبه وهي تشير بيدها للخادمة كي تدخل لوضع صينية الطعام بالداخل
تحركت سمراء ووضعت الفطور امام فيروزة التي نظرت على صينية الطعام متحدثة لسمراء
"اريد الطعام الخاص بسليم لماذا لم تحضريه مع فطوري"
نظرت سمراء نحو دينيز التي تحدثت قائلة
"سيتناوله الصغير طعامه بغرفته الخاصة بعد أربعين دقيقة ومن ثم يعود إليكِ "
احتضنت فيروزة طفلها وهي تنظر نحوها بقوة قائلة
" هل لديكِ أوامر بهذا ؟"
ارتبكت دينيز وغضبت وهي تخفض نظرها قائلة "لا. لا يوجد "
لترد فيروزة وهي تنظر لسمراء قائلة "احضري طعام سليم في غرفتي بعد نصف ساعة من الآن، فلنبدأ بمهروس الفواكه وبعدها بساعتين مهروس الخضار"
تحركت سمراء وهي تقول " امركِ سيدتي "
و خرجت لتخرج دينيز خلفها مغلقة الباب بغضب قائلة لنفسها
"متى سينتهي شغفه بكِ"
اغمضت عينيها لتتذكر ماضيها قبل ظهور فيروزه بحياتهم كم كانت مقربة من نعمان حتى كادت ان تصبح سيدة المنزل، تركت مكانها ناظرة للحارسات
" توخوا الحذر "
ذهبت لغرفتها لترتاح بعض الوقت وأي راحة وسلام داخل هذا القلب الحاقد الغاضب المجروح، فبمجرد دخولها الغرفة أغلقت على نفسها واسرعت لتمسك بوسادتها لتصرخ داخلها بغضب وقوة، متذكره خسارتها له عندما تعلق بفيروزة ابنة أحد العاملين بمصنعه
حاربت دينيز وقتها كي لا تخسره هو ومملكتها، لم تكفي قوتها لمجابهة حب نعمان لهذه الفتاة الشقراء ذات العيون الخضراء المنهكة الذابلة من شدة قسوة الحياة عليها، راقبها لشهور وشهور ليزداد تمسكاً بها، أرادها لنفسه دون زواج بأول الامر فهو رجل لا يثق بالنساء ، ولكنها بزيها المحتشم وأخلاقها التي جذبته إليها وميزتها لديه جعلته يفعل اي شيء لأجل الحصول عليها.
غمرها بحبه وامواله التي اغدقت على عائلتها بوفرة وكثرة، لم يرد الحصول عليها دون رغبتها أرادها بقلبها لينجح في الأخير بالفوز بها ولكنها رفضته دون زواج ليتزوجها بعد شرائه لها من عائلتها بمبلغ كبير لم يستطع اباها رفضه.
وضع نعمان شرطه الكبير بعدم رؤيتهم لابنتهم او البقاء معهم في نفس المدينة وليحدث ما أراده نعمان الذي تزوجها فور رحيل عائلتها ليضعها بسجنها الخاص به.
حاولت دينيز اغوائه لكن حبه لفيروزة تعدى كل الحدود والخيال فكانت قد امتلكته بخجلها لم تتحمل دينيز حبه الذي أصبح يزيد يوما بعد يوم حتى اصبح مدمنًا بجمالها ورائحتها وصفاء وطيبة قلبها .
…..
مرت عدة ايام استغربت سيلين بُعد هوليا عن ابنتها و هروبها منها حين سألتها عن موعد معرضها الفني ومتى ستأتي لتأخذها، الاغرب هو سفر هوليا بعد نجاح معرضها وتحقيق المزيد من التألق والنجاح دون توديع ابنتها.
سعد أورهان مستمتعًا بهروب هوليا من جديد والتهاءها بحياتها التي تشبه قلبها.
لتمر بعدها أيام و شهور وسنوات امضتها سيلين في رعاية أبنائها والاهتمام بنشاطاتهم الرياضية بجانب اهتمامها بدراستهم حتى اصبحوا اكثر تفوقًا، استطاعت لي لي الفوز بمدراس العلوم الخاصة
فرح الجميع بحصول ابنتهم على مقعد في تلك المدارس الخاصة والمميزة بقبولها الناجحين المتفوقين فقط بعد إجراء امتحان اكثر صعوبة..
خاضت لي لي الامتحان وهي تتمنى نجاحها به ليسعدهم الله بتحقيق هذه الامنية بعد أن نجحت بتفوق وجدارة، وبمرور ثلاث سنوات تغير الجميع وتقدم ما عدا نعمان الذي استمر بحياته المظلمة يحارب و ينافس فواز و غيره من عالمه المخيف، لازال يخرج منتصرًا مكتسبًا أعداء جدد يتمنون سقوطه بكل لحظة.
حقق مشروع فجر جديد بالنيجر نجاح كبير في وصولهم لهدفهم بأول سنتين من بدء العمل به. عكس تدهور وتراجع أرباحه السنوية وزيادة الخسائر المتفاقمة بكثرة دون مبرر واضح.
حاول أورهان معرفة سبب هذا التراجع اهتم بمراجعة السجلات ومجريات البيع والحصاد وكل صغيرة وكبيرة تخص المشروع بقلب لا زال يعد ابنه الروحي أن يكمل ما بدأه دون يأس ليكن ثواب واجر له بآخرته.
وبليلة جديدة في قصر الفولاذ جلست لي لي تشرح لتولاي مسائل رياضية معقدة، اتعبها من كثرة تكرار الشرح دون فائدة أصبح عقله لا يستوعب مهما شرحت له و حفزته بأعطاءه مصروفها بيوم الغد ان حل اخر عملية حسابية بمفرده.
عجز تولاي وحزن وهو يتذمر من إعادة التجربة بحلها، اقنعته مرة اخرى ان يحاول وهي تساعده خطوه بخطوه
وقف تولاي متحدث بحزن غلفه الغضب
" لم انجح بحلها، ولن أنجح بحلها غدا في المدرسة"
تحدثت لي لي بصوتها الحنون لتهدأ منه و تخبره انها ستشرحها له من جديد ولكن عليه ان يُركز معها ليستوعبها ويستطيع حلها وحده
جلس تولاي من جديد ليسمع من اخته شرحها دون استيعاب، دخل اورهان عليهم الغرفة وهو ينادي " أين أنتم يا أولاد انادي عليكم دون رد "
وقفت لي لي بوجهها المبتسم لتقول
" هل عدت يا جدي"
فتح يده لتقترب لي لي وتلقي بنفسها في حضنه مستمعه لجوابه
" نعم جئت ولم اجد من يستقبلني رغم تأخري"
نظر تولاي لجده بعيون حزينة مخفضة، تساءل جدهم
"ما به اسدي، ماذا فعلتِ له هذه المرة"
ضحكت لي لي وقالت
"لا لم يفعل شيء، هناك مسائل حسابية متعثرة بجانب اختبار صغير غدا في المدرسة"
رد أورهان معاتبًا عليها
"ولماذا لم تساعديه بفهمها"
هزت رأسها وهي ترفع حاجبيها
"لا فائدة. حاولت ولكني لم انجح مجددًا"
اقترب اورهان من مكتب تولاي خالعا جاكته من على اكتافه ممسكًا بمقعد جانبي قربه منه وهو يقول
"هيا لنرى ما يحزن أسدي، هل ستعجز أمامنا عدة مسائل صغيرة. ألم أخبرك من قبل أنه لن يتسلق احد سلم النجاح و يده بجيبه! عليك ان تجتهد وتحاول مره واثنان وثلاث دون يأس او ملل او تراجع. فأن اردت النجاح عليك بالمصابرة و الاجتهاد لنيله دائما كما لا أريد منك ان تسعى للنجاح فقط بل تسعى للتفوق والتميز"
ردت لي لي من الجوار وهي تردد كلام اورهان السابق لها قائلة
"وان اردت ان تصل لهدفك عليك أن تعمل عليه دون توقف كالنحل في خليته"
ضحك أورهان وهو يقول لها
" من الجيد انكِ لا زالتِ تتذكرين حديثي"
دخلت فضيلة عليهم الغرفة بصوتها العالي
" تقرع الطبول و القافلة تسير، نحن نسرع بتجهيز مائدة الطعام وانتم تتسامرون وتضحكون هنا"
نظر أورهان لحفيده معاتبًا على زوجته
تركهم حفيده دون مساعدة.
رفضت فضيلة الاجابة او الدخول في أي أحاديث قبل جلوسهم على مائدة العشاء كي لا يبرد الطعام عليها.
……….
وفي الساعات المتأخرة من الليل و وسط الظلام الدامس تصاعدت و توهجت النيران زافره لهيبها من نوافذ منزل فواز بيه احد اكبر ملوك السوق السوداء.
كان منزل خاص اخفاه فواز عن الجميع ليجعله مستودعًا لحفظ القطع النادرة التي تشبع شغفه، بجانب غسيل الأموال الطائلة بالسوق السوداء، ظنًا منه أنه لن يستطيع احد الوصول إليه ولكن ما لا يعلمه انه لا شيء يخفى على نعمان أفاي.
لم يتوقف الامر على منزله السري بل تم اقتحام مخازنه التي تقع على اطراف المدينة واحد تلو الاخر واخذ كل الأسلحة المتواجدة بها ومن ثم حرقها وإتلافها بشكل سيء. وقف نعمان بعيونه الحاده التي تعكس لمعة لهيب النيران المشتعلة أمامه متحدثًا بصوت ضاحك يخيف من يسمعه قائلا لمساعده وحافظ أسراره
"أرسل له رسالة محتواها نعمان افاي بيه يرد عليك السلام "
ضحك سنان وتحرك ليفتح باب السيارة السوداء الكبيرة ليصعد بها نعمان المنتصر.
انطلقت سيارته فور صعوده تاركين المكان ليسرع الرجال بالصعود بسياراتهم وإخلاء المكان هم أيضا بشكل متفرق.
كاد فواز ان يفقد عقله سقط على مقعده بأنفاس كادت أن تقطع، اسرع رجاله بفتح ازرار قميصه واعطائه دواءه.
جاءت الشرطة لمنزله العائلي لتسأله عن الحريق الكبير الخاص بمخازنه على أطراف المدينة، ليفعل كما فعل نعمان رفض التحدث وإعطائهم أي معلومات تخص الحادثة متواعدًا أن يقتص منه و يؤذيه بأعز ما يملك لديه. رحلت الشرطة وهي بحيرة أكبر مما يشاهدونه كل يوم ولم يستطيعوا تفسيره.
أمر فواز رجاله أن يأتوه بالملف الخاص بنعمان افاي وبعائلته ومن هم بقدر كبير لديه.
في قسم الشرطة ربطت المفتشة بينجو بين ما حدث بمصنع نعمان صباح اليوم و المخازن الخاصة بفواز وايضا ذلك المنزل الغريب الذي لا يبعد كثيرا عن المخازن.
تحرك المأمور كوزاي بيه مقتربُا من الأوراق المفتوحة على طاولة الاجتماع، ليرتب قطع البازل قائلا وهو يأخذ ورقة منهم بها صورة نعمان قائلا
" سنضع نعمان هنا، وبالأسفل سنضع المنزل و المخازن الكبيرة التي تبعد عن المنزل بضع كيلومترات"
اعترضت بينجو قائلة
"نحن لسنا متأكدين لمن يعود هذا المنزل انها مجرد شكوك أولية وايضا خلوه من البضائع يجعل احتمالية حرقه للانتقام غير واردة، فنحن أصبحنا نعلم كيف يفكر نعمان افاي، فإن كان سيحرقه كرد على ما حدث بالصباح فعليه أن يكون ممتلئ بالبضائع والا ما الفائدة من اندلاع حريق في مكان فارغ"
اومأ المأمور كوزاي برأسه وهو يقول
"انتِ محقة ومع هذا دعينا لا نستبعد هذا الاحتمال عن نعمان فهو كما ذكرتي ليس سهلًا يفاجئنا كثيرا دون تفسير "
جلس المفتش جوكهان على المقعد قائلا
"خمس سنوات ونحن نحوم خلفه ولم نستطع اسقاطه او حتى امساك دليل صغير يدينه "
تحركت بينجو لتجمع بيدها الاوراق او قطع البازل كما كانوا يسمونها، من اعلى المكتب وهي ترتكز عليه قائلة
"لن ارتاح حتى اسقطه اصبح هدفًا قويًا بالنسبة لي "
ضحك المأمور وقال
"أن أصبح هدفكِ فعلينا أن نقرأ عليه الفاتحة من الآن "
ضحك جوكهان وهو ينظر لخطيبته المتميزة قائلا
"نعم هي كذلك إن أصرت على فعل شيء لا يمكنها التراجع حتى انتهائه"
رد كوزاي بيه
"اتمنى ان تتفقا على موعد الزواج كما اتفقتما على القبض والنيل من نعمان"
ضحكت بينجو وهي تنظر لخطيبها جوهان قائلة
" ليس بعد. علينا انهاء بعض الامور اولا، ومنها أمر نعمان افاي اقسم انني أقبل ان ارتدي الأبيض وأُزف به في ليلة سقوطه "
ضحك جوهان وقال متغزلاً بحبيبته
"خرزتي الخضراء، كم انا عاشق لهذه العيون "
ضحك كوزاي
"سأسمح لكم بهذا الحديث ولكن ليس بمكتبي، هيا لنذهب قبل ان تغضب فاصوليتي علينا"
ردت بينجو وقالت
"لا يمكنني الآن يا أبي، لدي عمل سأنهيه اولاً ومن ثم أتي خلفك"
وافقها خطيبها جوكهان
" أبلغ أمي العزيزة من السلام"
تحرك كوزاي وهو يقول
" كنت سأتعجب إن أتيتم دون حجج، حسنًا أراكم غدًا على خير"
خرج من المكتب وهم ليغلق الباب خلفه، اقترب جوكهان من بينجو كي يقبلها، ليأتيه صوت والدها من الخلف
"أنا لم أغلق الباب بعد "
ابتعد جوكهان ليترك بينجو اكمل كوزاي حديثه قائلا
"اخرجوا من مكتبي انسيتم أمر كاميرات المراقبة به لا اريد فضائح هنا احذركم"
ضحك جوكهان وهو يقول
" لا يوجد فضائح وما شابه انها خطيبتي، وايضا انت تعرفها اكثر مني فجميع محاولاتي تبوء بالفشل حتى لم استطع الفوز بإحداها طوال سنة كاملة "
رد والدها
" ومع هذا لا اخرجوا من مكتبي، وايضا تبرر الأمر أمامي والله اصفعك على وجهك لتعي ما تقوله، اذهبا وتزوجا لنرتاح منكما "
...........
في صباح يوم جديد بقصر الفولاذ وعلى مائدة الفطور كان أورهان يتحدث بحزن موضحًا مدى استيائه من سير العمل بمشروع فجر جديد وكم هو حزين لأجل الخسائر الكبيرة و التراجع القوي بمسار المشروع.
فبعد أن يتم الصرف على العاملين وتغطية احتياجات الأهالي من ربح الإنتاج، أصبح لا يستطيع تغطية نصف احتياجات الأهالي هناك..
حزنت سيلين على ما سمعته انهًوا فطورهم وذهبوا للشركة ليبدأا العمل داخل اجتماعات موسعة مع المدراء والموظفين القائمين بمسؤولية ادارة مشروع فجر جديد في النيجر، دامت المباحثات طوال اليوم على أمل الوصول لحلول ومعرفتهم نقاط الضعف التي أثرت على المشروع بهذا الشكل.
اقترح زهير عليهم أن ينهوا أمر المشروع فيكفيهم ما أصابهم من خلفه، ردت عليه سيلين بحزن
" لا يمكننا فعل هذا، علينا أن نعمل عليه من جديد لنرى نقاط الضعف و نقاومها، لا يمكنني التخلي عنه"
تحدث زهير مجيبًا بسرعة
"تراجعت عن ما قلته، انا لم اقصد احزانكِ، سأفعل ما تريدين لأجل ارضاءكِ ولكن هذا لا يعني موافقتي على خطو خطوات اضافية بهذا المشروع ".
رد أورهان بيه و هو منزعج من طريقة تحدث زهير مع ابنته واهتمامه الذي زاد عن الحد وخاصة بالآونة الاخيرة ليقول
"لا رجعة من هذا الطريق سنكمل المشروع حتى وان اصبحنا نصرف عليه من أرصدتنا كل شهر، ولن يحدث ما لا نريده فلن اسمح ان يتحطم نجاحه بهذه الطريقة فإن قررنا ان نخوض تجربة علينا أن نكملها بقدر تاريخ نجاحنا، هذا ما تعلمناه بقديم الزمان فليس النجاح بمواصلة ارتفاعك بل النجاح الحقيقي هو سقوطك عشرات المرات ثم وقوفك و نجاحك من جديد، أنا لم أصل لهذا الوضع بدون معاناه ولم تلدني أمي وبفمي معلقة ذهبية، حاربت و جاهدت وصابرت و حاولت عدة مرات حتى وصلت لما أنا به الان، فلا تنتظروا مني أن اتقبل فشلي واجلس مكاني دون حركة "...
صمت لوهلة وهو ينظر لحزن سيلين مكملًا بعدها بكل قوة وعزم
"سأذهب بنفسي كي أرى المشروع على أرض الواقع. لا يمكننا معرفة المشكلة من على بعد علي ان أذهب إلى هناك واعاين الوضع بأم عيني، اريد ان اتحدث مع العاملين على المشروع هناك لنصل لنقاط الضعف و نضع ايدينا عليها لنستطيع تطوير المشروع وإعادة تهيئته للغرض الذي أقيم لأجله "
وقفت بخوف وذعر تحدثت به
" لا، لا تذهب لهناك"
حزن على حالتها مجيب بنبرة قلبه الرحيم
"لا تخافي يا وحيدتي ، سأذهب لضبط سير العمل هناك وأعود بوقت قصير، اعدكِ أنني لن أتأخر سأذهب واعود بسرعة كبيرة لدرجة انكم لن تشعروا بغيابي. لقد حان الوقت لذهابي فكما تعلمين لا يمكننا تركه لينهار أمامنا دون تدخل"
اختنق اورهان بحزنه لتصبح نبرة صوته ملغمة بالحزن والحسرة مكملًا حديثه بأعين تعبر عن حالته
" لقد دفعنا ثمنًا غاليًا لأجل البدء والنجاح به، فكيف تطلبون مني التفريط فيه بهذه السهولة "
ردت سيلين وهي تهز رأسها بالرفض
" لا، لن اسمح لك، لا يمكنني أن أسمح لأحد آخر أن يذهب لهذا المكان"
و تحركت لتخرج من المكتب قبل ان تبكي امام الجميع
تحرك زهير ليذهب خلفها لولا رفض اورهان و منعه من اللحاق بها قائلا بقوة
" ابق انت، انا من سيذهب للاطمئنان عليها"
قالها وهو يتحرك مسرعًا خارج مكتبه وكأنه يعلم بحالتها و نوبتها التي مرت سنوات عديدة على غيابها، دخل المكتب واغلق الباب وهو يهدأها قائلا
" حسنًا اهدئي، سيلين ابنتي"
كانت نوبتها مختلفة عن سابقتها فهي ترتجف بأعين جاحظة ورأس يهتز رافضًا للواقع المرير.
عادوا للقصر لتتفاجأ فضيلة بحالتها جلست بجانبها على الفراش طوال الليل خوفًا من عودة نوباتها مرة اخرى، وكيف لا تعود وهي اصبحت اشد واصعب حين تحولت الكوابيس متلازمة معها تعصف بلياليها المظلمة كل ليلة
شهدت فضيلة على أحدها حين رأتها وهي تهتز بنومها و تصحوا صارخة باسم زوجها، احتضنتها لتحنو عليها وتهدئ منها.
اشتعلت النيران بقلب فضيلة حين سمعت ندائها على يوسف بجانب بكاء سيلين وهي تقول لها
" كان يسقط، استنجد بي لإنقاذه، كنت سأمسك يده، نعم كنت سأمسكها ولكني لم استطع النجاح لم استطع النجاح"
لم تكن سيلين فقط من يحلم بهذا الكابوس فمن المؤلم تردد كوابيس مشابهه لأورهان فهو ايضا يراه بضباب وظلام دامس يمد يده له بصمت وكأنه يريد منه شيء لا يفهمه..
مرت ليلة حزينة لياليها صباح ليس بمختلف زاد حزن فضيلة من حالتهم لتقول لهم وهم يتناولون فطورهم
"يحدث بسبب المشروع، روحه تتعذب لخسارة هذا الخير، فكم عائلة و كم حلم و كم حياة ستتأثر من وراء هذه الخسائر، لقد كان اكبر حلمه ان يساعد هؤلاء، نعم هو يشعر بخسارته و إهمالنا له، انا اعلم قلب ابني جيداً من المؤكد انه حزين بتربته"
لم يقتنع أورهان بما قالته فضيلة فلا زال وجه يوسف وسط الظلام الدامس يراوده حتى بعد استيقاظه ويشعره بعكس ما يسمعه، أما سيلين فصدقت ما قيل عازمة على اعادة المشروع لنجاحه كي تنتهي كوبيسها ويهدأ هو بمثواه الأخير.
استجمعت قواها لتتحدث
"انا من سيسافر إلى هناك، انا صاحبة هذا الحلم المشؤوم وانا من عليه السفر لإكمال ما بدأنا به"