الليالي المظلمة الجزء الثاني
بقلم امل محمد الكاشف
وقفت بمكانها وهي تغلق حجابها وتنفض التراب عن ملابسها دون رد على أبيها ومن معه فقط كانت شاردة بتلك الكلمات التي سمعتها اذنها من ذلك الغريب.
ابتلعت ريقها وهي لا زالت تنظر جهة هروبه واختفائه، قلق أورهان وذعر من حالتها سألها
"هل فعل بكِ شيءً ، هل تجرأ و…"
قاطعته وهي تهز رأسها بالنفي متسائلة بصوت خافت
"من هذا الغريب يا ترى؟ "
صُدم اورهان من سؤالها ليقول لها
"نحن من علينا سؤالك عن هذا، ماذا حدث وكيف وصلتي إلى هنا؟"
تحدث الرجل البسيط وهو فاتح فمه باستغراب
" اقسم انه فهم حديثها الذي لم افهمه انا، اقسم انه من اولياء واحباب الله كما يقولون"
نظر أورهان مكان هروب الغريب بشرود بعد ان ترجم له فراس ما يقوله، ليأتي الى مسامعه تكملة حديث ذلك الرجل البسيط وهو يقول
" الجائزة أصبحت من حقي الآن، ألستُ محقًا بما أخبرتك به! ألم تجدها معه! هل ستعطيني إياها؟ انت وعدتني بها لا يمكنك العودة بعد أن وجدت ابنتك "
اصمته أورهان وهو يقول لفراس
"لا داعي للترجمة فقد ارهقني طوال الليل من تكرار نفس الجمل ، اخبره انني سأوفي بوعدي و سأعطيها له حتى و إن لم اجدها معاذ الله كنت سأعطيها له "
فرح الرجل البسيط فرحة كبيرة حتى دمعت عينه، كما فرح الجميع بعودة اميرة الفولاذ بعد اختفائها ما يقارب خمسة عشر ساعة.
أراد أورهان العودة لإسطنبول بعد ان اطمئن على ابنته ووضعها الصحي الذي شُخص من قبل الطبيب بأنه التهاب في الحلق بجانب ضعف عام أوصلها لهذه الحالة.
يعلم أورهان أن بنيانها ليس له ذنب بحالتها فهو نتاج سوء حالتها النفسية واشتياق قلبها وروحها لرفيق فؤادها بل و اشتياق النفس للراحة والسكينة بحضنه..
رفضت سيلين قرار ابيها الروحي بالعودة وأخبرته أنها بخير وتشعر بتحسن وأصرت على إتمام ما أتوا لأجله
كان قلقًا حيال السائق الذي أراد خطفها و لم يقتنع أنه لأجل المال أو لأجلها كما روت لهم وبرغم هذا التخوف لم يستطع أورهان اقناعها بالعودة فإضطر لتخصيص رجلي امن مدربين بالحراسات الخاصة لأجل حمايتها وعدم تركها ولو للحظة كما شدد عليهم هو الحل الأرجح حتى عودتهم لبلدهم.
……
أطلق نعمان سراح فواز بعد أن تأكد من عودة أخته بسلام. لم يكن تركًا عاديًا بل كان ضغطًا من سنان وعدد من كبار رجال الأعمال بالسوق السوداء. فالجميع تدخلوا لإنقاذ الوضع قبل أن يتفاقم.
وبرغم الهدنة التي أخذها الطرفان إلا ان داخله لا زال قلقًا على عائلته لذلك لم يعيدهم للقصر مجددًا .
ترك رجاله وصعد لغرفته كي ينام ويرتاح مغلقًا عليه بالمفتاح ليسرع بعدها نحو السرداب ونزل سريعًا لعائلته محتضنًا زوجته وهو يقبلها بقوة من رأسها، فرح سليم وردد "باب ب با بابا "
نظر نعمان نحوه بحزن لترفعه فيروزة وتضعه بحضنه وهي تضع يداه الصغيرتان لتحاوط عنق أبيه، لتزداد فرحة الصغير ويزداد حزن نعمان أكثر تحدث بصوته المختنق
"ابعديه عني. لا أريده، لا أريد أن يتعلق بي. لا أريد أن ألوثه بيدي ، أبعديه عني"
لم تستمع له اقتربت واحتضنته ليصبح الطفل بمنتصفهما وهي ترد عليه
"ولكنه ابنك لا يمكنك الابتعاد عنه حتى وان أردت "
رفع نعمان يده وحاوطها ليضمها وهو مغمض العينين كي يشعر بقربهم ودفئهم وحبهم.
.........
استلقت على فراشها بحالتها الشاردة تكرر ما سمعته بداخلها
"انا بجانبك لا تخافي "
اختنقت وضاق صدرها وهي تؤكد لنفسها انه ليس بحلم فقد سمعتهُ يتلفظ باسمها.
نزلت دمعة من عينيها حرقت وجهها من لهيبها وهي تعتصر ألمًا وحزنًا
" كلها أحلام. تهيأ لك ذلك لأنه أنقذك. حدث بسبب نوبتي و اشتياقي له"
طرق الباب لتجلس وهي تمسح دموعها قائلة " تفضل "
دخل أورهان وهو يقول لها
" كيف حال اميرتنا الآن هل تحسنتي "
تحركت و وقفت بجانب الفراش وهي تقول
"الحمد لله أصبحت أفضل اليوم"
نظر لملابسها ثم نظر لحالتها الحزينة وقال
"يمكنكِ قضاء يومكِ بالفندق، عليكِ ان ترتاحي لا تجهدي نفسكِ، وانا سأذهب لمركز الادارة كي ننهي اعمالنا بأقرب وقت"
رفضت سيلين وأصرت على الذهاب معه. اوما برأسه مستسلمً ثم تحرك وهو يقول
"هيا لنخرج إنهم ينتظروننا بالأسفل سنتناول فطورنا وبعدها نذهب لنرى اعمالنا"
تحدثت مرة اخرى وهي تتحرك خلفه
" هل عثرتم عليه؟ هل عاد لكوخه؟ "
استدار ونظر لها باستغراب
" ألازلتِ تتذكرينه يا ابنتي "
ردت سيلين بحزن
" اخبرتك إنني لن أتركه حتى اشكره على مساعدته لي هذا ما اعتدت عليه "
أومأ برأسه مرة أخرى
"لا تقلقي كلفت أكثر من شخص بالبحث عنه. يقولون هو شيء من هذا القبيل يختفي ويختفي ثم يظهر فجأة بلحظة لا يعلمها أحد ليساعد أحدهم أو لينقذ شخصًا ما كما حدث معكِ، فهناك حكايات كثيرة عنه جميعها تثبت أنه رجل مختلف تمامًا عن مظهره "
تحركا ليسيرا بجانب بعضهم خارج الغرفة و من خلفهم رجال الحراسة الخاصة ، دخلا المصعد الكهربائي لتسأله بنفس شرودها بعد أن اُغلق عليهم
" هل لديه عائلة ؟ هل هو من أهل البلدة ؟ "
تبسم أورهان بسخرية
"لنصل له اولا ومن ثم نتعرف على عائلته وكم ابنًا له"
أدار رأسه لينظر لها بحزن أكمل به
"اقول لكِ لا أحد يعلم مكانه او اي شيء خاص به وانتي تقولين عائلته وما شابه، اريحي نفسكِ واطمئني سنجده و نكرمه أكثر مما يحلم "
صمتت سيلين بحزن اكبر، فُتح المصعد بعد أن هبط بهم للقاعة الرئيسية بالأسفل ليخرجا منه متوجهين لطاولة الفطور
رحب الجميع بسيلين و هم سعداء بسلامتها تحرك زهير وسحب لها مقعدا بجواره وهو يقول
" سعدت بتواجدكِ بيننا من جديد "
تحرك اورهان وجلس هو على المقعد قائلا له " نعم الشكر لله على سلامتها ولكن دعونا ننهي فطورنا سريعًا ومن ثم نذهب لمبنى الادارة فهناك امور كثيرة علينا مناقشتها ومحاسبة المقصر بها"
استغرب زهير مما فعله اورهان، تحركت سيلين وجلست بجانب السيدة سيفدا ليجلس زهير بجانب أورهان وهو يرد عليه
"اعلم انك تضع علي الذنب من جديد، ولكني أخبرتك انه لا دخل لي بهذا. أتيت عدة مرات بزيارات قصيرة، اهتميت بسير الأعمال دون تركيز لهذا. كنت اوافق على التجديد والصرف وما شابه كي احافظ على سير الأحداث دون انتباه انه هناك خطأ ما "
حرك أورهان رأسه بضيق
" ومع هذا أنت مذنب، كونك المسؤول عن العمل يجعلك بموضع المقصر امامي، فإن أتيت إلي واخبرتني انك ليس بقدر المسؤولية لكنت أعفيتك منها وقمت بتوظيف آخرين بدلًا عنك، فلا تجعلنا مذنبين لكوننا وثقنا بك واخترناك دونًا عن الاخرون "
وبعد أن أنهوا فطورهم السريع خرجا بطريقهم للمركز. تعلقت عينيها بالطرق و الزوايا متمنية رؤيته ولو من بعيد وكأن الروح والقلب والعقل اجتمعا متمنين الشعور بقربه ولو لمرة واحدة، وصلا للعمل لتبدأ هي برحلة جمع المعلومات عنه من العمال البسطاء دون جدوى فجميعهم يكررون نفس الأحاديث.
هناك رجل فقط اختلف حديثه عن البقية حين قال " وكأنه غريب عن المكان ظهر من قرابة ثلاث إلى أربع سنوات، لا يتحدث ولا يفهم على أحد حتى لون بشرته الأبيض يؤكد انه غريب الأصل."
تسارعت ضربات قلبها لتسمع ذلك الرجل يقول
"مناخنا مختلف وشمسنا حارقة تؤثر بلون بشرتنا لهذا تأثر لونه نسبيًا، ولكنه لا زال مختلفًا عنا"
اختنقت أكثر وهي تتذكر صوته الذي سمعته يتلفظ باسمها و حضنه لها حتى نظرات عينيه لها. دخل زهير المكتب بعد أن طرق الباب دون ان يُسمح له ليجدها وحدها شاردة، نظر لمكتب اورهان الفارغ ثم نظر لها قائلا
" هل تسمح لي اميرتنا ان اجلس معها عدة دقائق"
انتبهت سيلين لوجوده نظرت له و ردت وهي تومأ برأسها
" تفضل، ان جئت لأجل ابي فهو سيتأخر بموقع العمل كان قد ذهب مع عيسى بيه ليرى حصاد بعض المحاصيل بنفسه"
دخل زهير المكتب وأغلق بابه وهو يجيبها
"بالعكس يناسبني كثيرا، حتى انني تأخرت بالقدوم فهذه فرصة جيدة كي نجلس ونتحدث"
استغربت سيلين تحركت وهي تقترب من مكتب أبيها كي تترأسه مشيرة بيدها لزهير أن يجلس أمامها
"تفضل انا اسمعك، هل حدث جديد بسير العمل"
نظر زهير لقوتها وتماسكها الوهميين وتحرك ليستجيب لها جالسًا أمامها
" نعم ارى ان هناك جديد قد طرأ وبقوة ولكني لم أره لأجل العمل"
ردت سيلين باستغراب
" انا لم افهم عليك ما الجديد الذي طرأ بعيدًا عن العمل"
تحرك على مقعده ليوجه قبلته عليها وهو يضع ذراعه على طرف المكتب ليستند عليه وهو يكمل
" أنتِ. أنتِ من تغيرت وكأن بكِ شيء غير مفهوم. عينيكِ الشاردة باستمرار. عودة حزنكِ الذي أصبح ملموسًا بخطواتك الهزيلة. لا اريد منكِ ان تؤكدي او تنفي هذا. فأنا اشعر بكِ جيدًا هذه لست انتِ. ماذا حدث لكِ لما تركتي نفسكِ للحزن مرة اخرى. ألم تعدي نفسكِ أن تتغلبي على حزنكِ لأجل ابناءكِ "
كانت تستمع له وهي تتذكر مكالمتها الاخيرة مع ابنها تولاي وحلمه الغريب بانقاذه لطائرة على وشك السقوط. ليتفاجأ بابيه يحييه من خلفه وهو فرح بانه اصبح طيار ماهر.
امتلأت عيونها بالدموع، ابتلعت ريقها المختنق لتخرج نفسها من نار صدرها المتوهج متنهدة بهِ وهي تقول
"لم يمت، تبقى القليل لأقسمُ انه حيً لم يمت"
حزن زهير على حالتها تحدث ليواسيها
"هل من جديد، ألم نغلق هذا الموضوع، اخبرتكِ من قبل أنه يحدث هذا معكِ لان داخلكِ لم يرغب بتصديق الواقع، هل سمعتي من قبل عن ميت يعود للحياة، سيلين انتبهي لنفسك لا يمكنكِ الدخول لهذا البئر المظلم بيدك، فهو ليس مظلم فقط بل ومخيف لدرجة انه من الصعب العودة منه. سينهيكِ نفسيًا و داخليًا حتى تتمني العودة ولن تستطيعي، انا لن اتحمل وصولكِ لهذه الحالة، الامراض النفسية والعيش بالأوهام وتخيل اشياء لم تحدث كلها امراض كارثية و ادويتها تجعل الشخص غير متزن، ان كنتِ تحبين ابناءكِ وترغبين بتحقيق احلامك بهم عليكِ أن تتحرري من هذه الافكار، وان تبني حياتك من جديد. انظري بجانبكِ ستجدين أشخاص كثر يحبونكِ و يتمنون اسعادكِ و مساعدتكِ رجاءً لا تغلقي على نفسكِ وتصبحي رمادًا تحت احزان الماضي والذكريات التي تسقطكِ ببئرك المظلم اكثر و اكثر، تحرري انطلقي لتجديد الحياة ابحثي عن السعادة بقوة. حاربِي لأجل الحصول عليها فأنتِ تستحقينها، اعطي نفسكِ فرصة كي تري الإيجابيات"
تحدث زهير كثيرا كالعادة دون انتظار رد منها معتقدًا انها تسمعه ولكنها كانت بعالم اخر تتذكر به حالتها حين استيقظت بحضن ذلك الغريب، لازالت حركات يده و تقلبه بنومه تأسرها، ولازالت تشعر بيده وهي تسحبها من البحيرة لتستند عليه، كانت لحظات عابرة غير كاملة مشوشة الرؤية ولكنها اخترقت قلبها بقوة.
تفاجأ زهير بصوتها الذي قطع حديثه حين قالت بعيون ثابتة و وجه يشبه اللوح الثلجي من شدة بهته
" نظراته. حركاته. انفاااسه. لا يمكن أن يكونوا جميعهم وهم، لامس يدي، احتضنني، انفاسه الخائفة علي كانت تحاوطني "
صُدم زهير بهذه الكلمات التي لا علاقة لها بحديثه بل صُدم بشرودها و ثبات عيونها القوية لدرجة جعلته يقلق حيال اصابتها بخلل نفسي تنفصل به عن واقعها لبضعة لحظات.
توقف وهو ينظر حوله بارجاء المكان باحثًا عن الماء، اخذه وهو يقترب منها
"اشربي واهدئي، لا تتحدثي. ستكونين بخير"
أعطاها الماء لتأخذه منه وهي تتحدث من جديد
" لم يمت انه الغريب، هو ذلك الرجل، يوسف لم يمت "
ونظرت له بقوة وهي تقول
" صدقني يا زهير يوسف لم يمت، رأيته، شعرت به، عيناه، يداه، انفاسه، قلبي تعرف عليه"
ازداد خوفه وقلقه ظل ينظر لها بصمت مترقب وضعها ظنًا منه أنها متغيبة عن الوعي بأعين متسعة .
وصل أورهان للمكتب وهو يلقي عليهم السلام ، كان من المفترض وقوف سيلين لاستقباله او ردها السلام عليه، نظر لزهير ليجده يشير بعينيه نحوها.
فهم اورهان أنها ليست بخير ولكنه اندهش لوصولها لهذه الحالة. صمت عدة ثواني تحركت بعدها سيلين وهي تنظر نحو نظراتهم وخوفهم قائلة
" انا بخيرلا تقلقوا شردت قليلًا فقط"
توجهت لباب المكتب، اسرع اورهان بسؤاله عن قبلتها.
التفتت له قائلة
" سأذهب للحمام و أعود "
خرجت واغلقت الباب خلفها، لينظر هو لزهير متسائل عن سبب وصولها للحالة التي رآها عليها عند وصوله.
رد زهير بحزن
"للأسف حدث ما تخوفت منه، تملكها حزنها و عدم تصديقها بوفاة يوسف بل و رغبتها بوجوده معاها لتصاب. لتصاب.."
صمت زهير ليقول اورهان
"لا لن تصاب بشيء، ابنتي مؤمنة بقدر الله هي فقط تمر بأوقاتها الصعبة ولكني اثق بقربها وايمانها بالله"
رد عليه زهير
" تعتقد ان الغريب زوجها، لقد رأت يوسف ،ماذا تريد ان ننتظر اكثر من هذا، علينا ان نعود بأقرب وقت و نبحث عن طبيب متميز بالعلاج النفسي"
تحرك أورهان ليترأس مكتبه وهو حزين يتنهد بضيق و ألم قائلا
" وهل العلاج النفسي سيداوي جروحنا، اسألني انا هذا الجرح مهما فعلت سيبقى مفتوحًا بالقلب حتى تعتاد على ألمه معتقدًا انه انتهى ولكنه موجود بكل وقت وحين يضغط عليك من وقت لآخر ليخبرك انك اصبحت وحيدًا وسط دنياك المزدحمة "
( رحمة الله على أرواح رحلت عن دنيانا ولكنهم لازالوا أحياء بقلوبنا 😔)
تحرك زهير وجلس من جديد بجانب المكتب وهو يقول باهتمام
"هل تعتقد انني لم اشعر بحزنكم، انت تعلم محبة وقدر يوسف بقلبي صُدمت وحزنت لفقدانه، ولكني لا استطيع تحمل رؤية زوجته تتعذب بهذا الشكل الذي إن استمر سيؤثر على أطفالها و حياتها"
رد أورهان وهو ينظر داخل عين زهير بقوة
" انت ايضا رأيت هذا الغريب معنا، ألم تشعر بما شعرت هي به، يعني هل هناك تشابه كبير حتى تتخبط ابنتي بالذكريات لهذه الدرجة "
ابتلع زهير ريقه وهو يتذكر الغريب ارتبك وتوتر مجيبًا بعكس ما يشعر به
"أنا لا اشعر سوى بأهمية عودتنا لبلدنا وإنهاء امر هذا المشروع، ان لم يكن لأجل ابنتك وروحك كما تقول، فسيكون لأجل احفادك ان اردت ان يكملوا حياتهم الناجحة وهم أسوياء "
وتحرك من جديد ليخرج من المكتب مختنقًا بحديثه مع اورهان و من قبله اميرة الفولاذ.
استقل احدى سيارات المشروع رافضا مرافقة السائق له قائلا
" اعلم طريق العودة، إن حدث شيء سأتصل بك وانت تدلني على وجهتي الصحيحة.
بالأعلى شرد أورهان هو ايضا ليتذكر عيون الغريب التي تعلقت بعينه لبضعة دقائق، تذكر كيف ألتفت وفهم على سيلين وهي تتحدث التركية
….
أخبر نعمان زوجته بقرار سفره للنيجر ليكون درع وحصن حصين لأخته هناك، قلقت فيروزة وسألته
"ونحن ماذا سنفعل وحدنا، وكيف ستنتقل لدولة اخرى والشرطة تبحث عنك بكل مكان، حتى انها لا زالت تحاوط القصر لهذه اللحظة تنتظر خروجك"
تذكر نعمان تسجيلات الكاميرات السرية التي شاهدوها معا، عندما داهمت الشرطة القصر بعد دخوله بوقت قصير باحثة عنه بكل ارجائه، فهم أصبحوا متأكدين من وجود مكان سري داخله.
تحدث ليرد عليها
"لا تقلقي سيكون كل شيء مرتب و محسوب، ولكن لا يمكنكِ البقاء بهذا المكان في غيابي بعد أن اصبح غير آمن لكم"
ردت بسرعة وبخوف
" وأين سنذهب وكيف سنخرج وهم بالخارج"
ضمها إليه وهو يقول
" لا اريدكِ ان تضعفي، جاء وقت الفراق ولكني اعدك انني سأعود وبقوة أكثر من قبل"
امتلكها الخوف لتقول
"ماذا تعني بالفراق، كيف سنفترق وإلى متى"
وضع يده على وجهها بحنان وهي بحضنه ليقول وهو ينظر لطفله النائم
" سأخبركِ بكل شيء بعد منتصف الليل، ولكني اريدكِ قوية صارمة لا تخافين أحد "
...........
لا زال زهير يتجول وحده بطرق المدينة وهو مختنق بحديثها و تهيئاتها يصدم مقود السيارة كلما تذكر اورهان وهدوءه و تركه لها تفعل ما تريد، لم يكن يعي تأخر الوقت و خطورة الطرق المظلمة التي يتجول بها.
خرج أمامه شخص يعبر الطريق بسرعة عارمة توقف خيفة من صدمه..
وقف ذلك الشخص بمنتصف الطريق ينظر نحو زهير بأعينه الواسعة، ارتجف زهير وصُدم حين رأى تلك العيون تنظر نحوه بقوة.
اصبح يلاعب ضوء كشاف نور السيارة القوي على ذلك الشخص لينصرف..
ولكنه استمر بوقوفه و نظره له. اطلق كلاكس السيارة المرتفع أكثر من مرة دون استجابة من ذلك الشخص الذي للحظة شعر انه يوسف بيرقدار من ينظر له وليس هذا الشخص الغريب.
وبخوف و ذعر من اعتقاده ان روح صديقه أتت لتعاتبه وتراجعه عن ما قاله لزوجته و أبيها الروحي. قاد زهير سيارته للخلف مبتعد عنه وهو لا زال ينظر له باعين مذعورة،
وصل لمفترق طرق اختار احدهم دون تركيز ليجد نفسه بعدها يصل للفندق بسرعه فائقة، دخل غرفته و أغلق عليه بابها وهو لا يصدق ما رأه، اسرع مقتربا من خزانته الخاصة واخرج منها زجاجة المشروب ليفتحها و يشرب منها مباشرة متأملًا بنسيان ذلك الشبح الذي أتاه من عالم الارواح..
اختنقت سيلين بذكرياتها من جديد وهي على فراشها بغرفة الفندق، نبض قلبها حين تذكرت حالتها بين يديه وصوته الذي لا زال يتردد بإذنها
" انا هنا، لن اتركك، سيلين "
اخفضت رأسها و وضعت يديها على اذنيها وهي تهز رأسها يمينا ويسارا مرددة
" لم يكن حلمًا. لقد سمعت صوته. لا يمكن أن يكون حلمًا"
كانت ترى قربه منها خوفه عليها كالخيال امامها، تحركت ونزلت من على فراشها وهي ترفرف كالحمامة المذبوحة بسكين بارد لا هي ذبحت و اريحت ولا هي تركت لتعيش دون ألم، خرجت لشرفة غرفتها وهي تزفر من داخلها نار بركان قلبها الهائج
نظرت للأسفل لتشعر انها تحلم من جديد. فتحت اعينها بقوة وهي تنظر نحوه لا تصدق ما تراه ، زادت انفاسها وضربات قلبها تحركت سريعًا لتخرج من شرفتها ممسكة بهاتفها مسرعة بنزولها للأسفل ومن خلفها الأمن وهي تقول لأبيها على الهاتف
"وجدته. رأيته. انه اسفل الفندق"
اسرع أورهان هو ايضا للأسفل قلقًا عليها وليس لأجل إيجاده برغم فضوله القوي حيال التعرف على الغريب والنظر إليه عن قرب ، بحثت سيلين بالأرجاء أمام ساحة الفندق و لم تجده
توقع أورهان انها خُيل لها من جديد، اقترب منها وهو يقول
" يكفي بهذا القدر، دعينا نعود للفندق، بل دعينا نعود لحياتنا، يكفيكِ ضياع وتخبط بهذه البلد "
لم تتحدث صعدت مرة اخرى لغرفتها لتعيش كابوسها الذي اصبح مرئيًا امام اعينها.
أما الغريب فكان قد غرق هو ايضا بكوابيس متكررة منذ هروبه منهم فتلك الكلمات ما زالت تؤرقه هو ايضا فكيف كان يسمعها بداخله وكيف فهم عليها عندما استنجدت به من ذلك الرجل.
بل وكيف فهم عليها عندما تحدثت بحضنه وهي تقول له " لا تتركني" ، كيف له ان يستمع لنفس الصوت يصدر من داخله وكأنه سمعه من قبل. كان على ذلك الفراش الأرضي يحرك رأسه بوجهه المتعرق وهو يسمع اصوات صراخ، اختنق بأنفاسه مجاهد كابوسه حتى احمر وجهه كالمحموم، عاد إليه صوتها وهي تحدثه وتقول
"إنهم معي، انهم عائلتي"، جاءت صورة الرجل المسن أمام عينيه لينتفض وتتكرر بكابوسه المظلم
ازدادت حركة رأسه وهو يغلق اعينه المغمضة بقوة وكأنها ستندثر وتدفن مكانها، يحاول أن يبتعد عن ذلك الوجه بكابوسه ولكنه لم يستطع الهروب فوجه ذلك العجوز المسن يرعد ليضيء بالظلام كالبرق المؤلم.
بهذا الليل الدامس تحرك نعمان نحو خزانة كبيرة ليدفعها بقوة بعد أن فتح عدة مكابح قوية تثبتها بالحائط الخلفي، ليظهر باب صغير كان مخفي خلفها تعجبت فيروزه قائلة "وماذا ان لم تستطع العودة للقصر وتحريري من هذه الغرفة"
نظر لها مجيبًا
"كنتِ علمتِ بأمره عند عثورك على ورقة بها كل التفاصيل فقط حين تنهي اخر علبة من طعام طفلنا"..
بهذا الوقت ان لم استطع العودة لكِ لخرجتي من نفسكِ و خطوة بخطوة وجدتي كل شيء.
نظرت فيروزه نحو الباب الصغير وقالت "والان ماذا سنفعل"، تحرك ليأخذ حقيبة كبيرة جمع داخلها اطعمة الطفل وادويته و ارتداها على ظهره.
تحدثت فيروزة مرة أخرى
"ما دمنا سنرحل انتظر لأجمع بعض الملابس لي وله"، منعها ليفاجأها من جديد قائلا
" يوجد مثلهم بكل مكان ستذهبين له"
اخذ الطفل منها وهو مكمل " هيا اتبعيني"، و انحنى ليدخل الباب الصغير وسار بهذا الانحناء طوال الممر، بكى الصغير تخوفًا من ظلمة الممر وانحناء ابيه به، حدثته امه وهي تروي قصص الحيوانات التي يحبها طوال سيرهم بالممر المتعب جدا رغم أنه ليس بطويل.
وصلا لباب تم فتحه ودفعه من جهة نعمان لتجد فيروزه نفسها بمطبخ منزل صغير وبسيط.
حذرها نعمان ان تصدر اي صوت او تفتح نور حتى تشرق الشمس كي لا يلفتوا الانتباه لوجودهم المفاجئ وخاصة لأفراد الأمن التي تحيط قصره المخيف الذي لا يبعد كثيرًا عنهم
..........
بهذا الوقت و وسط هذا الظلام وهي شاردة حزينة تتساقط دموعها الحارقة الصامتة على وجنتيها ببطء تدفع الدمعة اختها ليتساقطوا دون توقف أو اعتراض، سقط سهوًا من يدها ذلك الكأس المتلألأ اللامع، لتتناثر شظايا كسره أمامها كالكريستال المتراقص على السطح الاملس، بهذه اللحظة ما كان عليها أن تنتبه سوى لهذه الكسرات عكس ما حدث حين اتسعت عينيها وهي تنظر للظل الأسود المنعكس من جسده النحيل و شعره الطويل. حدثت نفسها
"لقد اتى إلي، انه الان خلف زجاج نافذة شرفتي، أنه هو"
تعالت أصوات دقات قلبها المتسارعة و أنفاسها المتلاحقة التي اصبحت تعلو وتعلو حتى كادت أن تصم آذانها، بل كادت اعينها الجاحظة أن تخرج من مكانها من شدة تحديقها واتساعها.
تعرقت جميع خلايا جسدها حتى اصبحت تقطر كصنبور ماء عطلت اعداداته، بدأ الظل يتحرك ويقترب شيئًا فشيئًا حتى ظهر امامها، لم تستطع ابتلاع ريقها المتحجر ولا رفع شعرها المتساقط على وجهها المتعرق من هول ما يحدث.
كان عليه ان يتقدم اكثر. مقتربًا منها. يتحدث معها ليخبرها ما أصابه بغيابهم عنه . او انه يركض ليحتضنها داخله دون كلام، ولكنه اكتفى فقط بالظهور أمامها دون حركة ينظر لها بأعين ثابته، حرك يده و رفع شعره بحركة يده المتلازمة له، ثم رفع حاجبه بوجهه المبتسم وكأنه يعلن عن نفسه أمامها قائلا "ها أنا قد جئت إليكِ مجددًا لقد عدت لحضنك مجددًا"
تحركت شفتاها مهمهمة
" يوسف.. ي و س.. يوس ف"
تبسم وفتح ذراعيه أمامها لتسرع نحوه راكضة ملقية بنفسها بين ذراعيه وهي تصرخ باسمه باكية
" يوسف. يوسف"
جلست مفزوعة على فراشها وهي تبكي، ممسكة بيد والدها الذي ربت على يدها برفق وهو يقول لها
"ابنتي. ذهب. انا بجانبك. كان حلمًا. كان كابوسًا"
زاد بكاءها و حسرتها و ألم قلبها حين أيقنت أنه خيال عابر أتاها باحلامها، كم تمنت ان يكون حقيقي.
حزن أورهان عليها وهذا ما جعله يستعين بفضيلة كي تقنعها بالعودة وترك هذا البلد الذي دمرهم نفسيًا، اخبرها بسوء حالتها و هو يقول لها
"ذبلت وانتهت، ستموت ببطء وتنتهي امامنا وايادينا مربطة"
ردت فضيلة عليه بحزن
"عليك أن تجد هذا الغريب بأقرب وقت، كثف البحث عنه. أعلن عن جائزة مالية من جديد لمن يجده. عليها أن تقتنع أنه ليس بيوسف كي تتأكد من وفاته، عودتها ليس حلا ستستمر بهذه التهيئات و تتدمر أكثر.. "
شرد اورهان من جديد ليتذكر كوابيسه و احلامه المشابهة لها، كيف يراه وسط الضباب يستنجد به لعدة مرات بصمت و خفية، اختنق عندما تذكر وكأنه داخل ذلك الحلم ينادي عليه ليسأله
" اين انت لماذا تبتعد لا تذهب"
وعند صمته نادت فضيلة عليه اكثر من مرة، ليرد عليها قائلا
"وماذا ان كان حيًا يحتاج لمساعدتنا، فأنا ايضا اشعر بما تشعر هي به، انا ايضا..." صمت اورهان لتبكي فضيلة بصوت مسموع " سأفقد عقلي، اقسم ان استمريت انت وهي بهذه الحالة سأفقد عقلي، ماذا ظننتم انتم هل انا لا اشعر! هل انا لم احزن عليه!، ارحموا قلبي. ارحموا حزني. لم اعد اتحمل حديثكم"
اغلقت الهاتف بعد أن ساءت حالتها ليتصل أورهان بأنيسة ابله كي تصعد لها وتطمئنه عليها.
تحرك ليخرج من الفندق وبجانبه ابنته وهو يعاهد نفسه على إنهاء عملهم اليوم في هذه البلد. و بصدفة غريبة رأتهُ سيلين بساحة مركز الادارة وهي تنزل من السيارة.
عَرفتهُ من ظهرهِ وهيئة شعره الطويل المتعرج. وقفت بمكانها دون تحرك ألتفت اورهان نحوها قائلا
" ما بكِ؟. لماذا توقفتِ؟ "
نظر نحو مد نظرها ليجد ذلك الغريب يقف بجانب عدة عمال آخرين يشبهونه بحالته الفقيرة المنعدمة، اقترب بسرعة منها
" اهدئي، لا نريد أن نخيفه كي لا يهرب ويترك المكان"
نظر حوله مكملًا
"كيف لم يخبرنا أحد بوجوده رغم معرفة الجميع ببحثنا عنه"
تسارعت أنفاسها وهي ترى حركة ارجله بوقفته ويده التي من جديد رُفعت لتبعد شعره عن وجهه بحركة معتادة محفورة بقلبها وروحها.
تهيأ لأخذ صندوق كبير محمل بالخضار من أعلى سيارة نقل و وضعه بمكانه.
بجانب عدة أشخاص من ذوي الطبقة المنعدمة يحملون مثله الصناديق الكبيرة الثقيلة لينزلوها و يرتبونها بالمستودع الجانبي..
توتر أورهان عندما رأى حالتها. لا يعرف ما عليه فعله وكيف يتصرف وماذا سيفعل ان انهارت.
اقترب من كبير العمال قائلا
"عملا موفقاً لكم جميعًا"
شكره الرجل متمنيًا له يوم عمل موفق.
شرد اورهان لثواني معدودة وهو ينظر للغريب الذي يعمل بصمت دون الالتفات لضحك وأحاديث من حوله. كالأصم أو كمن لم يفهم لما يقال بجانبه.
اقترب ذلك المسؤول من أورهان بيه وهو يقول " اؤمرني كيف اخدمك"
رد أورهان بصوت منخفض وهو يشير بيده
" يكفي أن تأتي بهذا الغريب لمكتبي بعد انتهاء عملكم"
وعده كبير العمال أن يأتيه به بعد ان ينتهوا من العمل
عاد اورهان بجانب سيلين مرة اخرى وهو يقول
"سيأتي بعد انتهائهم من العمل هيا لندخل، لا تجعليه يراكِ كي لا يعتقد اننا جئنا لأجل الحادث و يخاف و يهرب"
تحركا للداخل سويًا، أتى زهير من الخلف وهو يقول
"هذا يعني انني وصلت بالوقت المضبوط. صباح الخير عليكم"
وبدون أن ترد على زهير نظرت لأبيها قائلة
"سأذهب لأغسل يدي و ألحق بكم " وتحركت صامتة غارقة بتهيئتها
لم تذهب للحمام بل وقفت أمام نافذة صغيرة تطل على مدخل المركز كي تراقب الغريب دون ان يراها احد، كانت بحاله سيئة كمن فقد عقله وسلم نفسه للجنون دون مقاومة.
وقفت تنظر وتراقب أدق حركة تصدرها جوارح ذلك الرجل الغريب، شهقت بقوة وهي تنظر نحوه عندما انحنى بنصف قامته العليا للأمام يحركها يمينًا ويسارًا بعد أن انهى عمله
جاء المسؤول عن العمل كي يعطيهم المال. كالعادة رفض المال وأشار للخضروات و الاطعمة بصمت، تحدث رجل من الجوار لم تسمع صوته ولكن من الواضح انه يشرح للمسؤول وضع الغريب الذي لا يأخذ مالا مقابل أعماله ويستبدله بأطعمة و ملابس تعينه على الحياة.
حاول المسؤول اقناعه ان يأتي معه لداخل المركز ولكنه لم يفهم عليه، أراد أن يأخذ الأطعمة مقابل عمله ويذهب ليختفي من جديد.
استطاعوا اقناعه بلغة الاشارة كي يدخل معهم حين اشار له مقرب منه وشرح بيده إنه سيأخذ اطعمة اكثر عند عمله بالداخل.
تحرك بجانب العمال لينهي عملًا إضافيًا بالداخل، اسرعت سيلين وهي تتنفس بصعوبة لتدخل مكتب أورهان قبل وصولهم.
فتحت الباب بقوة انفاسها المتعالية من حالتها وركضها لتقول
" انه قادم، انه قادم"
انتفض اورهان من على مقعده ليهدئها، اقترب السيد فراس منها ليسألها بخوف
"من هؤلاء؟ "
سمعوا صوت خطوات اقدام العاملين وصوت أحاديثهم وهم يقتربون ، فهم أورهان الأمر وأشار لفراس كي يتنحى جانبًا.
انتفضت عند اقترابهم أكثر وتحركت لتقف بآخر الغرفة تحاول ان تختبئ منه ليزيد هذا من استغراب وحيرة وخوف ابيها عليها فكادت أن تصبح مريضة حقًا من خلف هذا الغريب ..
سمح لهم أورهان بالدخول ليتفاجأ بعددهم فقد طلب شخصًا واحد ليأتيه عشرة
اقترب كبير العمال وقال له
"لم استطع اقناعه بمفرده فهو على باب الله لا يفهم بالكلام"
أومأ اورهان برأسه وهو يحاول أن لا ينظر نحوه كي لا يتذكره ويهرب، ولكن حتى وإن لم ينظر له فبمجرد رؤية الغريب وجه أورهان بيه اتسعت اعينه وتذكر كابوسه وذلك الوجه الذي يرعد أمامه بكل ليلة.
تحرك الغريب عدة خطوات للخلف جعلت أورهان ينظر له متأكدًا من تذكره له، تحدث له بالإنجليزية
"لا تخف انا لا اريد اذيتك"
ترجم فراس الكلام سريعًا بالفرنسية ولكن دون استجابة.
تحرك الغريب ليخرج من الغرفة بخطوات ثقيلة. يجاهد دوار رأسه الذي أصابه بمجرد رؤيته لأورهان وتذكر كابوسه والصور التي تبرق بأعينه والأصوات الغريبة التي طرقت برأسه مجددًا.
تحدثت سيلين من الخلف بالإنجليزية
" رجاءً توقف، نريد فقط شكرك على ما فعلته معي"
تغيرت نظرات اورهان وهو يدقق بذلك الغريب وكأنه رأى بداخل عيونه ما رأته ابنته..
تحرك الغريب وهو يجر ارجله المتثاقلة خارج المكتب لتسرع هي خلفه قائلة باللغة التركية و بصوت عالي يصل لحد الصراخ "انتظر. لا تذهب. ارجوك انتظر."
ارتعد داخل الغريب من كلماتها وصوتها وقف وهو لا يصدق تفهمه لما تقوله له، ساءت حالته اكثر عند تكرر صوتها من مكان بعيد داخله وكأن قلبه يصدح بصوتها وهي تردد كلمات كثيرة متشابكة غير مفهومة ليصبح هو بنفس سوءها يتنفس بقوة يحارب بها نفسه و حالته. فلو كان بالوضع الطبيعي لما رآه أحد أمامه حتى الان.
اقتربت منه اكثر وهي تراقب جوارحه التي استجابت لصوتها و وقفت لثواني قبل أن يكمل سيره. حدثته بسرعة
" نريد أن نشكرك على ما فعلته معي، لن نؤذيك سأشكرك فقط "
اكمل سيره بثقل واعين اصبحت ترى كل ما يأتي امامها باللون الأسود والأبيض مصاحب بطرق يعصف و يرعد برأسه.
لم تتركه رغم اقتراب ابيها منها وإمساكه لذراعها التي سحبتها بسرعة ركضها نحوه وهي تقول بصوت باكي
" يوسف. يوسف"
اختنق صوتها لتصرخ بأعلى صوتها
" يوسف"
ربطت يدي وارجل أورهان وهو ينظر نحو الغريب و حالته التي أصبح عليها وتأكده من استيعابه للغة التركية
وبلحظة غير منتظرة ألتفت لها ذلك الغريب ونظر نحوها بقوة وحدة وضيق تحرك بعدها ليكمل سيره وهو يستمع لصوتها و مناداتها عليه من داخله. انفصل عن عالمهم ليصبح صوتها يصدر وينبع من داخله ليرعد بقلبه و رأسه حتى كاد أن يسقط مغشيًا عليه.
تفاجأ العاملين الاتراك و من هم من أهل النيجر مما حدث امامهم. صمت زهير وهو يتذكر حدسه وما حدث معه بالأمس فقد عاد صاحبه، لم يكن شبحًا، نعم تلك النظرات وتلك الهيئة ليس لها تفسير سوى عودة يوسف.
تحركت سيلين خلفه وهي تردد
" لا تتركني، يوسف لا تتركنا ، يوسف"
انهارت مكانها أرضًا تبكي بندائها الصارخ وتوسلها له بأن لا يتركها.
سقطت من جديد ببئر حزنها.
جلس اورهان على مقعد مجاور و هو ممسك بقلبه مردد بأعين امتلأت بالدموع
" هو.. نعم.. انه.. انه.. "
وكيف لا يتعرف عليه القلب! وكيف لم يشعروا به! وهو الابن والحبيب والاخ والرفيق، كيف لا تشعر بحضنه و صدره الحنون!، كيف تتوقعون ان تتقاسم معه الأنفاس دون ان تتعرف عليه! فإن لم تتعرف عليه لظننت انه اصبح رمادًا بقلبها انتثر و ذهب بخبر رحيله.
